الثلاثاء، 26 يوليو 2011

عن النثر والشعر . والشعر / رابح التيجاني


عن النثر والشعر ..والشعر
                                               رابح التيجاني

      أجهل الشعر  أجهل النثر
 أجهل الشعر ، أجهل النثر ، وأعرف الكتابة ،صبية عذراء أغشاها وتغشاني قبل أن تصبح مدام قصيدة أو السيدة مقالة، أعرف الكتابة قبل أن تذبح قربانا أمام أوثان الإستطيقا ، وإن كان مشروطا أل تعتبروا الشعر إلا إذا أرقصكم فثمة في الصدر أنغام الحزن الجنائزية دندنات الفرح، ثمة ما يكفي مقامات وإيقاعات تركبها النفس وتموج حدوا ، وإن كنتم تستلزمون القوافي هاكم لهاثي وأنفاسي تواترا وتقطعا ، محطات أشمخ جذبا وحرارة من تكرار الروي أو السبب الخفيف أو الوتد المجموع أو المفروق ، سألتني عن رأيي في قصيدة النثر ، رأيي الموضوعي ، وأدخل ذاتي وأخرج منها وأسألني وأسألكم كيف أكون موضوعيا ؟ أأتحدث عن مجلة " شعر " وما أتيح لي الإطلاع عليها ! أأستعرض ما علق بذاكرتي عن تثوير اللغة وزمن الشعر والشعراء أدونيس إنسي الحاج يوسف الخال ، طليعة شعراء لبنان ، أأتناول شهادات الماغوط تجاه زمن الرداءة وعلاقتها بالشعر ؟ أأتموقف إزاء إفرازات الشعر بتونس وأتناول ظاهرة إبداع " غير العمودي   والحر "، أأخوض غمرة الشعر المغربي فأفاجئكم بأن مصطفى المسناوي في كتاباته القصصية شاعر وعبد الكريم برشيد في كتاباته المسرحية شاعر وأن عددا من الشعراء لاارتباط لهم بالشعر عموديا ومنثورا وحرا ؟ أأنطلق ابتداء من انتفاضات الشعر المعاصر وأعلج نازك من " الكوليرا " وصولا بها إلى الموت أو الحياة التي تكتنه قصيدة اليوم ؟ أأخرج بالسياب من تساؤله " هل كان حبا " وأنساب تدريجيا عبر متطلبات الواقع إبداعيا ؟ أأستند في جوابي تراثيا وأعانق ثورات الماضي وأستفسر ابن المعتز وأبا تمام والمتني والحمداني ونظراءهم ،أم أستفسر ابن الخطيب وكل وشاحي الأندلس والمغرب والتروبادور ؟ ؟ لن أفعل ولكني أسأل ما السر في كل هذه الضربات التي يتلقاها الخليل ، ولن أجيب فالخليل قد سقط فعلا أو لابد أن يسقط بشكل أو بآخر أو تسقط صنمية النظرة إليه ، وسيحتفظ له الشعر بفضل التأطير الإيقاعي لديوان العرب ، ذلكم التأطير الذي إن كان فيصلا بين فنون القول فإنه ليس معيارا للشعر ولا ضابطا لحدوده ومستوعبا لتطوره ،، وأنتقل عبر تساؤلي وأساير أراغون في سان ميشيل أو سان جيرمان ونجالس بعضنا في مقهى المنبع ونختلس الشعر من عيون إلزا فلا يكون إلا كما شاءت الكتابة ، كتابة أوتوماتيكية، تحتفي مقطعية اللغة الفرنسية وقوافيها ويكون الشعر ، كيف يكون ؟ كذلك يكون، وأتابع سارتر في تفريقه بين الشعر والنثر ، الفشل والنجاح ،الرقص والمشي ،وبالرغم من كل التنظير يظل الشعر خارج القمقم دائما ، وأسأل ت س إليوت  فيجيبني :" لم أستطع أبدا أن أحفظ أسماء التفعيلات والأوزان أو أن أقدم فروض الطاعة لقوانين العروض المعتمدة وليس معنى ذلك أنني أعتبر الدراسة التحليلية للأوزان والأشكال المجردة التي تختلف اختلافا بينا عندما يتناولها الشعراء المختلفون مضيعة للوقت ، وكل ما في الأمر أن دراسة تشريح أعضاء الجسم لايمكن أن تعلمنا كيف نجعل دجاجة تبيض "(1) ولو أن إليوت يستدرك بأن :" وراء أشد الشعر تحررا يجب أن يكمن شبح وزن بسيط إذا غفونا برز نحونا متوعدا وإذا صحونا اختفى حيث ان الحرية الحقيقية لاتظهر إلا إزاء قيود مصطنعة " (2)فإن أشعار إليوت نفسه وأرضه الخراب مترجمة حملت كل الشاعرية وهي خالية من الوزن والقافية ونبرية اللغة الإنجليزية.
      لا أريد أن أستطرد وأستنطق إزراباوند أو كولردج أو بليك فإن بعض أشعارهم لم نقرأها إلا مترجمة منثورة ولقد ظلت في مجملها شعرا ، إن الشاعرية الحقة لاتعتمد موسيقاها العروضية اعتمادا ولعل هذا ما سمح بالعرف على شعر حقيقي يوناني أو تركي أو إسباني وعداه مترجما ومنثورا ، غير أن شعرنا العربي بطقوسه يحمل من الإيقاع والبيان والبديع أكثر مما يحمل شعرا ، وتلك سقطته التاريخية التي لابد أن يبدع المبدعون في إطار تجاوزها ، ولا أنفي ضرورة الإفادة منها إلى حد ما ، ولنتأمل إلى أية درجة يمسخ الفهم الموسيقي حقيقة الشعر بالمقارنة فقط بين بعض الترجمات العيدة لرباعيات الحيام ، لا أطيل وأساند تقريرا أورده غالي شكري في كتابه " شعرنا الحديث  إلى أين " يقول :" إن إحلال كلمة النثر مكان الوزن لا تعبر إلا عن رد الفعل الذي يصنعه الشعراء ، فقصيدة النثر تقف في الطرف المقابل لما يدعونه بقصيدة النظم ، ولكن دعاة هذه القصيدة يلتقون في الواقع عند حدود المفهوم الكلاسيكي للشعر ، بمعنى آخر المفهوم الشكلي ، فليس النثر في قصيدة النثر هو الذي يمنحها قيمتها الفنية الجديدة ، وليس النظم  في قصيدة النظم هو الذي منحها قيمتها الكلاسيكية القديمة ، وإنما هناك شيء آخر لا علاقة له بطريقة تركيب الكلمات نثرا ونظما هو الذي يخلق ما ندعوه بالشعر " (3) ولو أن غالي شكري يستطرد في هذا المقام ليشيد بالشعر العامي فإنه حقا أصاب المفصل وحدد مواصفات الشعر الجديد معمارية وأبعادا ، وإن كان الإبداع العامي باعتبار ثرائه وباعتبار العامة المقصود الأول بالإبداع ، ولضرورات الوحدة والقومية ، فإن القصيدة البديل تشمله عنصرا محققا للواقعية والجماهيرية ، إن المنظور الشعبي للأدب عامة يستلزم أصلا تحديد الشعب أولا ، أهو الشعب اللبناني ، الشعب المصري ، الشعب المغربي أو الشعب العربي ؟ أشك ولا أشك في انحرافية أدب العرب وسقوطه في الشوفينية ، ولكن هذا التنوع وبأصوله العامية بالإمكان استيعابه في إطار البناء الجديد للقصيدة الجديدة ومن أشكالها قصيدة النثر ، وبذلك يصبح مصدر إثراء وليس حدودا حاجزة .
البحث عن القصيدة الجديدة
      دائما في إطار البحث عن القصيدة الجديدة قد يعتبر ما قيل عن إبداع العامة موقفا رجعيا ،، حقا إن ثقافة الطلائع المتنورة كانت عبر العصور رأسمال ممنوع على الآخرين ، رصيدا في الأدمغة ، رصيدا يتم استعراضه بأبهة وتقسيط وبرمجة على الدونيين ، تحاول فرضه مدعية الإرتباط بالجماهير المسحوقة ومعاداة الكبار في الوسائل والمضامين ، هذا في أحسن الأحوال إذ أن أغلب ما وصلنا عن مثقفي العصور العربية لايعكس إلا المدح على أعتاب السلاطين جهارا ، طبقيا يمنع المتنورون شيوع ثقافة الجماهير ، تلك الثقافة التي تعني إقصاءهم أنتلحنسيا وبورجوازية صغرى عامة ، كما نصطلح على التسمية حاليا ،وتحطيمهم في إحدى مدعمات أشكال الممارسة ، إن البورجوازية صغيرة وكبيرة ، ونترك الكبيرة لله ، أقول إنها تعتبر أشكال الثقافة الشعبية ومضامينها سطحية مسطحة مبتذلة وبالمقابل تعتبر الفئات الشعبية ثقافة المتنورين ثقافة قصور ومجالس وصالونات وعوالم خاصة ولو تناولت شؤون الشعب وقضاياه ومشاغله ، إذ هي ثقافة تتوسل في كل مناحيها وأدواتها لغتها الخصوصية وقيمها الخصوصية نظرتها الخصوصية ، إن مسألة شيوع الأدب محكومة باعتبارات استراتيجية لكل فئة أو صنف أو طبقة ، والبرجوازية تجد مجالها في الوسائل السلطوية للتبليغ وتفرض بذلك قيمها الإبداعية والجمالية ، وتظل الثقافة الشعبية دائما مسارحها الشوارع الدور الحوانيت في كل مكان ، خارج سوق عكاظ أو على هامش قصور العباسيين ، بطبيعة الحال هي ثقافة مرفوضة رسميا ولكنها ثقافة الأغلبية التي كان يجب أن تصلنا وما وصلت أو أنها وصلت إلى حد ما متنكرة في غمرة ضحكات جحا أو حدائق كليلة ودمنة وليالي ألف ليلة وليلة والمقامات وزجليات المجذوب وسير الخوارق والأساطير والتحليقات التصوفية ،  ولو أننا فهمنا الشيء من ضده فإننا حقا ما نزال نعاني مشكلة التعرف على الثقافة الحقيقية من خلال الثقافات المزيفة وما يعتور ذلك من ملابسات ، ترفض الشعوب دائما أستاذية المسيطرين والموالين للمسيطرين وتصنع ثقافتها ، وبحكم السيطرة فالمعتقد أن تاريخ الأدب الذي قرأناه في المدرسة ما وصلنا إلا بحكم السيطرة ونحن لانملك إلا أن نقبله تاريخا ولكننا نرفضه إبداع الشعب العربي والأجيال ،من هذا المنطلق نتساءل ماذا حمل إلينا الشعر العربي ؟ وبطرح  أدق ماذا حمل إلينا الرقص العربي ؟ إنه باستثناء الشعر الذي تضمن تجارب انسانية ومعاناة حقيقية لا نعثر إلا على البحور طويلة ومتداركة ومساحيق الجناس الطباق التورية التضمين الكناية الإستعارة وما يؤكد البراعة اللغوية ، تجربة المتنبي وطرفة بن العبد وعروة بن الورد وأبي فراس الحمداني أوصلت أصالتها وغيرهم قليل ، ولكن أمام الخضم الهائل للشعر العربي نخجل حقا إذ لا يكون رصيد العرب شعريا إلا أسماء معدودة من خلال ملايين الأبيات ، وماذا أجدتنا علوم بيانهم وبديعهم وإني لا أدعو إلى تركها بقدر ما أتلمس مشارف القصيدة الجديدة مستغلة البيان والبديع والعروض في الظرف المناسب بحيث لا يستمر إبداعنا إلى الأبد توشية وزخرفة وموسيقى ، إسقاطا لطموح ترفي لا غير ، يتمثل من داخل الخيام نقوش القصور ويسير على رمال الصحراء العائقة راقصا ، جماليات الشعر  ،  هذا الوثن الضال والمضلل ،كيف تحدد قاعدة وتم شيوعها ؟ أتساءل كيف تسمح الكلمات لنفسها بأن تغرق في الجماليات والموسيقى الراقصة لتعرض للمتلقي قمم الحزن مثلا ؟ إنها الخيانة ، خيانة المظاهر على مر العصور ، خيانة الطبقات الظاهرة الطافية على السطح الطبقات المستفيدة أو السائل لعابها ، إنني بكل ملتقى أكون أو أريد أن أكون مكتنها للكتابة وتكون ألغازا ، أحاورها وعندما تملكني أو أملكها أمسك زمامها ، تنطق بي وتتبعني منقادة كظلي ونمشي حيث نشاء معا ،ةأنا وهي ، ننثر الخطو إذ تجرنا متاهة ، نرقص إذ تدغدغنا ريح مرحة ،نقف انبهارا أو احتقارا أمام حائط حيطان نختفي نظهر ،وإذ ينتهي المطاف أراها وأرى فيها نفسي وغيري ، أرى كل المخلصين مثلي أرى  الشعراء فيها .
        متحفية اللغة لا تستهويني بقدر ما يستهويني تسكعها بالحالة التي شاءت أنيقة أو مهلهلة بين الدروب وفي أصقاع الوجدان والفكر والواقع ، وأنحني لها إذ تكون متناسبة مع المقام ، قبيحة إذ تعببر عن القبح ، جميلة إذ تعبر عن الجمال ، أميرة وصعلوكة ، لامعنى إطلاقا لأن يكتسي التعبير دائما قناعا تجميليا يقتات بهموم الجماهير ويجعل من مشاكلها فنا جميلا لا غير ،إن أكذوبة إثارة المشاعر والتأثير فيها بالكلام العذب المموسق لا يهضمها إلا الذوق الأرستقراطي الذي يحنط هذه الأعمال ويدرجها في إطار التحف الفنية ، أتساءل كيف يأتيك الناعي وهو شاعر يخبرك بموت فلان يقول لك ماااات فلان مااااات  كان موته عظيما عظمة البحر موكب جنازته تظاهرة حاشدة غرق جثمانه بين الناس وذااابانتهى ،إنه تصوير يراعي أن يبلغ أمرا بوائل خائنة ، إن المحسنات البلاغية أفسدت علينا اللغة وما تحمله اللغة ، وماذا يهمني أنا من كل هذه الطقوس ؟ لو دعيت كإنسان يعاني حقا من موت هذا الفلان لصمتت أو بكيت أو قلت شيئا لست أدريه ، ولكنه هو ، إنه الشعر وهذا ما يجب أن نبحث عنه ، وليكن كيفما شاء  موزونا أو منثورا ولكن إنه سيكون بكل إطلاقية الكلمة ، الشعر الشعر المفقود .
الفوارق والقواسم
     لعلنا نتجاوز في حديثنا هذا فارق الشكل بين قديم الشعر وحديثه ، وأكيد ان الفارق ليس شكليا فحسب ، وقد أشار إلى ذلك غالي شكري ،إن المعيار التفريقي بين القديم والأنماط التجريبية الحديثة لا يمس الشكل دون المضمون وهذا ما يجعل الحديث عن قصيدة النثر متجاوزا للفوارق الشكلية وممتدا إلى جوهر الشعر عامة ، وإذا كان سارتر يقر بأن " اللغة الشعرية تنبجس فوق أنقاض النثر ، وان في كل شعر شكلا من أشكال النثر أي من أشكال النجاح ، فبالمقابل فإن النثر الأكثر جفافا يحتوي دوما على شيء من الشعر ، أي على شكل ما من أشكال الفشل " ويضيف سارتر :" إن أي ناثر مهما كان صاحيا لا يصل إلى الإفهام لما يريد أن يقوله فهو يقول أكثر أو أقل مما ينبغي وكل جملة هي رهان مجازفة أخذها على عاتقه وكلما تلمس طريقه ازدادت الكلمة تفردا "(4).
        أقول إذا كان سارتر يقر بهذا فواضح أن المسألة وفق هذا النسق من التحليل ليست مسألة كتابة شعرية أو مسألة كتابة نثرية ، ولكنها قضية تعبير بالدرجة الأولى، ونستمر مع سارترفي معرض مقارنته يقول :"إن التزام الشاعر الحديث هو التزام الانسان بأن يخسر وهذا هو المعنى العميق لذلك النحس لتلك اللعنة يعزوها إلى نفسه دوما والتي ينسبها دوما إلى تدخل من الخارج في حين أنها أعمق اختيار له ومنبع شعره لا نتيجته ،إنه متأكد من الفشل الكلي للمشروع الانساني وهو يعد نفسه للفشل في حياته الخاصة حتى يكون شاهدا بهزيمته المتفردة على الهزيمة الانسانية عامة ،  إنه ينقض إذن وهذا ما يفعله الناثر أيضا ، لكن نقض النثر يتم باسم نجاح أكبر في حين أن نقض الشعر يتم باسم الهزيمة المستترة التي يخفيها كل نصر "(5).
     وسارتر يقيم هذه التوازنات ليخلص إلى الشعر المحض أو النر المحض ونحن هنا لسنا بصدد عرض للوجودية المتجاوزة بقدر ما نريد استخلاص رأي وارد بخصوص معضلة التعبير باعتبار :" أن الإيصال مستحيل وأن الكلمة أداة لهزيمتنا ومخبأ لما لا يمكن إيصاله وصولا إلى القضية ، قضية البنى المعقدة غير الصافية والواضحة الحدود "(6).
      أعتقد أن الصيغ النثرية إلى حد ما جاهزة دائما أما الصيغ الشعرية فإنها تستحضر من خلال طفوس معينة شكلية ومضمونية ، ولكن مع ذلك قد يكون استحضارنا للغة الشعرية سقوطا في صيغ جاهزة باعتبار أن اللغة معين  يغرف منه الشعر والنثر ، ثم إن هناك صيغ شعرية جاهزة نجدها في الأمثال وفي بعض التعابير لدى العامة تكونت منذ قديم وصارت تعبيرا عاديا يستعمل استعمالا نثريا ، وهذا وإن كان يقود إلى حصوصية الشعر وأن النثر عمومي  فهو ليس فارقا ، وإن التعبير كان جاهزا أو غير جاهز محتاج إلى روح ما تجعله شعريا ،تلك الروح التي يمكن أن تمس اللغة العادية أو اللغة المصنوعة ، ثم إنه ليس مشروطا دائما في الصيغ الشعرية ن تكون مقفاة موزونة كما أنه لا يعيب الصيغ النثرية خلوها من الوزن والقافية وإنما فضل الشعر هو الإفادة من إمكانات العبير شعرية ونثرية إلى الحد الذي يجعل فعلا العمل المنتج إبداعا وخلقا .
موسيقى الشعر
     فيما يتعلق بالموسيقى في الشعر فإنها لا تخلقها رتابة الإيقاع وتكراره بل يمكن أن تنتج الموسيقى من تنوع الإيقاع أو التفعيلة ، وإن لكل كلمة بناء إيقاعيا يتحدد من خلال صوائتها وصوامتها ، فإذا أضفنا إلى كل ذلك ما تلبسه اللغة من دلالات وما تنتجه تقنية الكتابة من صور وأوضاع وتراكيب خاصة تبين لنا كيف يمكن أن يكون الشعر ولو في إطار تركيب نثري لايعتمد البيت أو السطر أو التفعيلة المحددة ، أتساءل كيف لا يمكن للمتلقي إدراك موسيقية الكتابة إلا إذا كانت متكررة حسب تفعيلة معينة ؟ فإذا كانت لكل كلمة بنية إيقاعية وإذا كانت ارتباطاتها بكلمات أخريات يقود إلى خلق سلسلة من الإيقاعات قد تكون متجانسة أو متنافرة فكيف لا يكون الإعداد لتصورها وتلقيها كذلك ؟ هناك في الموسيقى المغناة أو المعزوفة جمل موسيقية لا تعتمد إيقاعا واحدا متكررا ، ثم أليس في الموسيقى ما يسمى بالتقاسيم ن تقسيم على مقام الصبا مثلا أو الحجاز أو النهاوند أو البياتي ؟ إن هذه التقاسيم نثرية بحيث إن أداءها يتم دون إدخال الإيقاع في الاعتبار ، لماذا الشعر وحده نريد منه أن يكون موزونا ؟إننا نسمح للنثر بأن يخرج من نثريته ويتأطر في بناء موزون مقفى كما هو الحال في سجع  المقامات وفي بعض الأمثال ولكننا لانقبل العكس ، لا نقبل أن يسترسل الشعر ويتخلص من قيده .
       إن النظرة الأرثوذوكسية إلى الشعر قد تؤدي به إلى الإنقراض كما هو الحال في العلوم المحتكرة سابقا والتي أحيطت بهالات من التعجيز والحصوصية كعلم السحر مثلا . ولنعد إلى الإيقاع وعلاقة بنية الكلمة به في الموسيقى المعزوفة ، نجد مثلا إيقاعات موسيقية ثنائية ثلاثية رباعية إيقاعات بلدي مصمودي صحراوي وهذه الإيقاعات يؤشر لها ب"دم"و"تك"وترتيب هذه الدم والتك وفق تشكيل معين يعطي الإيقاع مثلا  :دم تك دم دم تك ، هذا إيقاع موسيقى يعتمد دم ويمكن تشبيها بمتحرك في تفعيلة فاعلن وتك ساكن ودم دم تك وتد مجموع التفعيلة ، ونقيس على ذلك سائر الكلمات أو التفعيلات ونرى أن أساسها إيقاعي حقا ، ولكن لا تتجلى بصورة واضحة خصائص هذا الإيقاع مثلما تتجلى في الموسيقى ، ولكن ما يهم قوله هو أن أخذنا لإيقاعات متعددة في آن لاينفي أننا لانستعمل إيقاعا ن مثلا ن فاعلاتن مستفعلن فاعلن فعولن مفاعيلن فعلن ، إن بناء الكلمات هكذا أو وفق أسلوب مشابه لايعتمد تكرار تفعيلة أو تفعيلتين لم تألفه الأذم في الشعر ، ولعلنا بحاجة إلى التأكيد على صرورة توافر الأذن لدينا على قدرة تستطيع أن تنتزع الموسيقى من خلال تعدد الموسيقى والإيقاع من إيقاعات ، لا أن تظل حبيسة الرتابة المعهودة ، دم دم تك دم تك ، فعولن ، وكفى. إنك وأنت تستمع إلى الدقة المراكشية تماما وكأنك تستمع إلى أرجوزة أو معلقة ، بناء محكم وإيقاع محسوب ، كل خروج عليه يستوجب تكسير التعريجة على رأس من أخل بالميزان ، ومع ذلك يستطيع الإيقاعي البارع تقسيم الزمن الواحد إلى أزمنة ويسميه "الزواق"إلا أنك وأنت تكتب الكلمة تستطيع أن تحذف ولكنك لا تزيد ساكنا  أو متحركا في صلب البنية عدا الترفيل والتذييل  ولو بدعوى الزواق  مع أنه من الممكن ذلك بشرط إدماج الزيادات في زمن معين عند القراءة أو الإلقاء وتخصيص زمن معين صامت للمحذوفات عند القراءة أو الإلقاء أيضا ، ونتناول إيقاعات الحيدوس أو الهيت ، إن هناك تصريفا للوزن بشكل غريب أحيانا يجعلك تعتقد أن الوزن مختل أو أنه لا وزن هناك ، نقرات متتالية على البندير بدون نظام هو النظام نفسه ،حقا إن هناك وزنا محددا لا يقبل التمازج مع وزن مغاير ولكنه وزن متفتح على الإضافة والتحرك وهذا ما نعدمه في الإيقاع الشعري ، إنه الوزن الخفي الذي تحدث عنه إليوت إلى حد ما .
      إن الفرق بين إيقاع الكلمات وتراكيبها التي تخلقها بنفسها وبين القصيدة التي تريد أن تحبس كلماتها في إيقاع معين مسألة لا تحتاج إلا لمزيد من المراس والقدرة على فهم واستيعاب التعدد ، ولست بحاجة إلى القول بأننا مدعوون إلى إبعاد ونفي ما بصم به إرنست رينان وأتباعه من الأعاجم عقلياتنا بأنها عقليات توحيدية لا تستطيع النفاذ للمركبات والمعقدات ، ومجال الموسيقى أيضا يحكمه ما يحكم الإبداع إذ لا نجد قدرة على فهم وتطبيق الموسيقى من خلال تنزع في النظرة بحيث تكون العقلية المبدعة والمتلقية جامعة للأقانيم وممتدة في نفس الموضوع الإطار ، إن عدم وصولنا في الموسيقى إلى ما يسمى بالتناغم يقابله حقا قصورنا في مجال الإبداع الشعري وعدم تمكننا من استخلاص الشيء من اثنين وإدراك الشعر سواء في الشعر أو النثر ، إننا أقرب إلى  الخيل التي تحاذي عيونها بقطعتي جلد   لترى طريقا واحدا أمامها فقط : الشعر يعادل التفعيلة والنثر انسياب وما عدا ذلك فلا شيء هماك.
       إن الشعر يكون قبل أن تكون اللغة وحدودها ، ولكنه باللغة يكون ، فباستحضار اللغة باعتبارها المميز للكائن الإنساني ووسيلة تعبيره الأولى بها نقول الشعر أو نقول عداه ، قد تحتوي هذه اللغة على الشاعرية المسكوبة وقد تظل بعيدة حاملة كل كلمة فيها مدلولها الخاص مضافا إلى المدلول الخاص لكلمة أخرى ومدلول خاص لكلمة أخرى ونكون أمام حالة مثيرة فعلا قد تقترب من الشعر بمبهماتها ، ولعله كان من باب التحديد إضافة قيود إلى الشعر أو أن الشعر تميز بالأشكال التي نراها عليه من وزن وقافية ، ولكننا بالنظر المتأمل نتأكد من أن الوزن مستوعب للنثر أيضا ثم إن عددا من القصائد العمودية لا تختلف في شيء عن النثر ،وإنه لمن الأكيد ما دامت نقاط الائتلاف بين الشعر  والنثر أكثر من نقاط الاختلاف أن يتحدد الشعر بمعياره الحقيقي ، معيار تضمنه لحقائق  وتجليات وحمولة وخلق شعري ،لا كونه مقيدا أو غير مقيد.
        إن الكلمات وموسيقاها الداخلية وتراكيبها أحيانا وتجانس الكلمات ودلالاتها أمر بيد هذا الشاعر والناثر لا فرق إلا في استعمال هذه المواد ، بل إن النثر بتراكيبه المعتادة والأكثر تحررا تتضمن غالبا من الشعر  ما تعجز دونه الوسائل المعقدة التي أرادوها لتحديد الشعر في حين أنها تعمل على نفيه في الغالب الأعم ، ومالنا ولهذا الشعر الذي عزلناه بأقانيمنا ثم ها نحن نتحدث عن "علاقة الشعر بالفنون الجميلة بالرسم ، علاقة الشعر بالموسيقى " (7)علاقة الشعر بالرياضة  الفكرية .
       لا أشك في أن الشعر هو كل الفنون وأن التعبير عنه دائما تعبير جديد له مكوناته التي تنشأ بوجوده ، قد تكون البنى الموسيقية الناتجة عن تناغم الكلمات ، قد تكون الإيقاعات المتكررة ،قد تكون الصورة أو الكاريكاتور ، قد تكون الحوار الداخلي أو الحوار مع الأشياء ، قد تكون اللقطة ، قد تكون البنيات الدرامية الملحمية ، قد تكون الغنائيات البسيطة و قد تكون اللوحات التركيبية ، قد تكون الخاطرة ، إن كل هذه الإشكال لا يتحدد مدى استعمالها إلا من خلال المضمون وبأسلوب جدلي لا أولية فيه للمضمون دون الشكل ولكن لهما معا . تبقى مسألة بنية الكلام الشعري وهذه في نظري مضاف إليها طريقة الفهم الشعري والتناول هي المميز الفصل للشعر ن إن موقف الشاعر الانسان تجاه الأسئلة الكبرى هو ما يحدد الشعر ، وليس الوقوف أمام الأسئلة يستدعي دائما أجوبة ، إن الشعر وهو متناول للميتافيزيقا أو كاشف لملكوت النفس وارتطامات الانسان بالأشياء بالكون ، بعلاقة الانسان بنفسه علاقاته مع غيره مع معطيات الوجود وغيبياته يظل شعرا بمعنى إنه مستوعب لخلاصات التجارب الانسانية ومحرك لها ، ومن ثم فإن استيعاب التجربة الانسانية في الكون وتحريكها ليس بالضرورة استيعابا متحفيا ، وأقول بالضرورة ، فكلما كانت متحفية الإبداع عائقا دون الإبداع أو شيوع الإبداع كان من الأولى إعطاء الأولوية للإبداع بتلقائيته واعتماده لشروطه الخاصة التي تأتي مع الخلق ومن ذاته لا إسقاطات جمالية محددة يتم إلباسها لكل التجارب دون مقاسات اللهم كونها موضة العصر موضة الكتابة .
      وأتصور القصيدة عملا مفاجئا ، فالقارئ أو المتلقي تعود على الشعر ، شعر الأبيات ن شعر كلمة في سطر أو كلمتين ،ومن الناس من يقلب الصفحات كلما تأكد له من خلال هندسية الكتابة أن الكلام شعر ، لهذا تأتي القصيدة الجديدة وفي ركابها قصيدة النثر شراكا يستدرج القارئ أو المستمع ضمن أشكال معتادة لا تدعي التميز عن الكلام العادي المنثور ، وتربح القصيدة قارئا كان يعتقد أنه يقرأ مقالة ينهيها ليعود متسائلا أي شكل من أشكال النثر هذه الكتابة ليتيقن من أنها شعر ،إن طقوس الكتابات الشعرية القديمة عزلت الشعر ولا نخفي أن من بين القراء من يتجاوز صفحات الشعر هربا من وجع الدماغ ومن الخواء في حين أنه ما من أحد لا يقرأ النثر ، كلنا قارئون للنثر ومتحدثون به ، ولكن من الشعراء من يريد أن يجعل من الشعر مملكة لا يغشاها إلا المقربون ، ومن هنا فالعودة إلى الأشكال العادية ضرورية لتحرير الإبداع كلما كانت التجربة انسيابا لا يستدعي هذه الوقفات والأسطر ، أفرأ قصائد وأكتبها أحيانا تضم في  كل سطر منها كلمة أو كلمتين ، هكذا ، وألمس نوعا من السلطوية ممنوحا لكلمة في سطر واحد أرادها الشاعر مفتاحا للقصيدة أو معلمة بارزة من معالمها  ، غير أن عددا من هذه التجزيئات اللغوية تجعل الكلمة تلعب لعبتها الخاصة ، لعبة حمل دلالتها أكثر من اشتراكها لتأدية معنى مخلوق ، وبذلك يكون اندراج الكلمات ضمن جيش تعبيري متماسك أكثر ايحاء وأداء ، بمعنى أن اختفاء الدلالات المفردة للكلمات في السياق نسبيا وتضافرها لتأدية معنى ينتج التحاما بين دلالات متعددة هو ما يجعلنا نتلقى ما نتلقى من معان مقصودة ناسين الوسيلة وكل المتاهات الشكلية ، وأمثل لذلك بكتابات بعض المتصوفين وأبرزهم النفري ، لا أعتقد أن مواقف النفري نثرية ولا كتابته أيضا وإلا بماذا نفسر هذه القوة التي تجري في كلمات معتادة ومعتادة جدا ؟؟
الغموض والوضوح 
      قضية أخرى: غموض الشعر ووضوح النثر  ، قضية مردودة لأن الوضوح والغموض مرتبطان بالموضوع المعبر عنه وليس بالنثر أو الشعر ، قد يكون النثر غامضا إذا كان ما يراد التعبير عنه غامضا وقد يكون واضحا في الأغلب الأعم باعتبار أن المرامي التي يستهدف التعبير عنها عادية بعكس الشعر الذي يتلبس الغموض اعتبارا لتعقد التجربة أو استعصاء المجال المتناول أو حتى جدة التركيبات اللغوية ، تلك التركيبات غير المألوفة إلى حد ما ، وهذا لا ينفي أن يكون هناك شعر واضح وضوح النثر العادي ترتكز حرارته في نقل موضوع أو موضوعات معينة ، إلا أن أغلب الشعراء يخيفهم هذا الوضوح وكأنه نفي للشاعرية فيلجأون إلى تغليف هذا الوضوح بأصباغ ومحسنات بلاغية وتفنن عروضي وكأنهم بذلك يضيفون إلى شعرهم من الطقوس ما يكفي لتمييزه عن النثر، والواقع ان غموض الشعر أو وضوحه في القصيدة العمودية أو قصيدة النثر لا يتحدد إراديا أبدا ، أما حال المعاجميين المتعاملين مع الكلمات وإفرازاتهم فشيء آخر سواء في الشعر أو النثر.

خلاصات
 أعتقد أن تشتت الأشكال الفنية الأدبية هو ما يجعل كل الفنون مفتقرة ، ولعل مقولة إن الشعر ديوان العرب ما كانت لتكون لو طفت فنون أخرى أو ساعدت طبيعة العرب على تواجد فنون أخرى وآداب بنفس مستوى القصيدة ، وحقا لقد وصل الشعر ذروته خلقا وشيوعا وفاعلية ، ولكن ومرجلتنا الحضارية مختلفة تماما عن العصر الجاهلي والحالة ان الفنون وجدت مجالاتها وتمسك كل فن من فنون القول أو التعبير بمقاييسه وأثرى في حدوده الخاصة ها نجن نجد كل الفنون متطاولة ولا نجد فنا واحدا يعبر عن الانسان تعبيرا جامعا مانعا كاملا شافيا ، إن الاجتزائية في مجال التعبير الانساني دعت الكلمة إلى جمع مقاييس ومعايير حولها وانفردت عن أخواتها لتكون هذه قصيدة وهذه قصة مع أن المفروض أن جل الخلق الانساني في ميدان التعبير عن الذات والواقع وما وراءه هي شعر ، الرسم شعر والموسيقى شعر ،وهكذا ، وإني لا أرى الشعر إلا شاملا لكل الفنون الأخرى وأنواع التعبير بما فيها النثرية.
        إن كل الأشكال التعبيرية تضم بين ثناياها شيئا من الشاعرية ، لكن الشعر بشموليته واعتماده على أبدع ما تميز به الانسان وهو اللغة المنطوقة قادر على ضم مختلف جزئيات أشكال التعبير المختلفة بمعنى أن الشعر قد يستوعب الموسيقى كما هي وموسيقى العروض أو الموسيقى المقطعية أو الإلقائية ، قد يستوعب الرسم وقد أكد هذا الإتجاه الدادائي ، قد يستوعب الكاريكاتور وقد يستوعب جماليات النثر من سجع وخطابية كما أسلفت ، لماذا نريد حصر الشعر في نطاق معين ، أعتقد أن الراسم وهو يرسم أو الموسيقي وهو يلحن يقوم بعملية إبداع شعري ،قد تختلف وسائل التبليغ ولكن يظل العمل شعريا ، لماذا لا يسعى الشعر إلى توحيد شتلته فيشمل كل أنواع التعبير حسب الإقتضاء . فكرت مرة في قراءة قصيدة نثرية بشكل غنائي وكنت قد كتبتها مدندنا بنغمات مسترسلة ولكن الإقدام على المغامرة راعني ويشهد الله أن كتابتها بدون تصنع جاءت مصاحبة للموسيقى ،  ليس العروضية ولكن الموسيقى ، مقطع على الصبا أشد النغمات جزنا ومقطع على الحجاز أشد النغمات تجسيدا للتيه والغربة والحنين ، وقد يتحداني قارئ للقصيدة أين هي الموسيقى ؟ إنه يسأل عن  العروض وقد تجاوزتهلأخفي ما يسميه منثورا إلى الموسيقى الخالصة . لماذا نفرض على الشعر شكليات مستقاة من عنده مع أن كل المظاهر التعبيرية الأخرى هي جزء منه ،  قد أكتب قصيدة لن تكون قصيدة إلا بقراءة معينة مغناة أو ممسرحة ، قد أكتب قصيدة لن تكون قصيدة إلا طبق رسم معين ، إن الشعر سائر إلى الإنقراض بانفراديته وابتعاده عن طبيعته التي هي شاملة لكل الوسائل.
       أتصور سوق عكاظ وشاعرا من إياهم يقرأ شعره ، لاشك أنه وإضافة إلى العروض كان الشاعر خطيبا وممثلا ومهرجا ومغنيا وراسم حركات على الهواء وغلا ما كانت له كل هذه القوة في حفر قصائده في الأدمغة .
     إن الشاعر بالضرورة لا بد أن يكون كل الأدب والفن ، ولا أعتقد أن الرسام مطالب بأكثر من فهمه للغة الألوان  ، الرسام في حدود تعامله خصوصي ويتحرك في مجال معين ولكن الشعر قاسم مشترك في كل المجالات ، لذلك لا يستغرب أحد إذا رأى قصيدة على شكل نثر قصيدة خطية قصيدة لوحة قصيدة أغنية قصيدة رواية . إن الشعر هو كل الأشكال والمضامين وليس الكلام الموزون المقفى ، ومن ثم كان سؤال " العلم " محرجا لي أيما إحراج إذ أطالب بالحديث عن قصيدة النثر بدل الشعر عامة .
     ولأننا نعيش عصر الثورات والإيديولوجيا ، لأننا نعيش كل العصور التي مضت والعصور التي لم تأت بعد فأنا لا أسقط التناولات التحليلية التفسيرية للواقع الداعية إلى استشراف آفاق أخرى ، فالشعر بطبيعته تجاوز غير أن التناول أيضا لا يمكن أن يكون كما أرى إلا اختزانا وتخميرا لكل العناصر التي تفرز العمل الإبداعي عن أصالة ، وأعتقد أن هذه الإفرازات لا يمكن أن تكون إلا تجاوزا للحدود المرسومة. الشعر موقف مختزل إزاء الوجود انطلاقا من الذات عبورا بالأشياء بالكون  بما يعتمل الآخرين ووجود الآخرين وقوفا بالأسئلة الكبرى ، ارتطاما بها ، خنوعا أمامها أو تجاوزا ، وبذلك لن يكون الطرح الحقيقي للإبداع إلا ذلكم الطرح الذي يصدر عن انسان مختزن كل عناصر الحياة والموت وليس مختزنا لحدود الشعر وحدود النثر ، ولن تكون أشكال هذا التعبير إلا أصيلة أصالة الإنسان نفسه لم تكسرها العصي التي ورثناها . إنها عودة بالكتابة ليس إلى النثر وحسب ولكن إلى ما أراه أصلا قبل التشتت ، فلا شك أن الناس لا زالوا يتساءلون أيهم الأسبق الشعر أم النثر ولا شك أنهم أدلوا بما شاؤوا من نظريات ، ولكن انطلاقا من تجربتي حالة الكتابة أجدني أقرب إلى الإنسان الأول الذي اعتقد أنه عندما كان يقف أمام بحر أو جبل تختلط معاناته لتبرز همهمات إشارات تغيرات فيزيولوجية كلاما رقصا أو تلاشيا ، نوعية هذا التعبير لا أستطيع أن أحدد مواصفاتها ولكن أسعى إلى استخراجها كلما حاولت الكتابة مستفيدا مما يغشاني من ترسبات ورصيد مستجمع لخبراتي تواجدا واطلاعا ومعايشة ، مستفيدا وغير مستفيد إذ أريد ألا تحصرني التصنيفات والأقانيم والتخوم الموضوعة : هذا شعر هذا نثر هذا كلام مسرحي . لا أشك أن هذا التخصيص للنوعيات كان ضرورة اقتضتها ضرورات ، ولكن أومن إيمانا عميقا بأن الشاعر لا بد أن يكون الانسان الأول على حد ما في سذاجته وبراءته وانفعاله بالكون والأشياء، ولأن انفعال الانسان المعاصر ليس انفعال سيدنا آدم والله أعلم فلا شك أن إفرازات المتأخرين ستكون أشد حرارة وقوة وما هي كذلك . 
   إن استهلالية المتنبي " واحر قلباه ممن قلبه شبم " تبز عديدا من التوعكات والتأوهات المعاصرة ، لا يعني طرح هذا الحديث تكريما لمن سبقوا وللبدائية وليس مثالية أو عوما فكريا ، إني ملتزم ولدي قناعاتي كما كان الانسان دائما ، كان الانسان يؤله الشمس أو القمر يعظم الشجرة أو قرون بقرة ، كانت تلك قناعات واليوم الانسان يؤله شيوعية أو رأسمالية ، قصيدة شعر أو قصيدة نثر أو يرفض الكل . إن ما يؤكد دعواي اننا نجد أكثر الكلام شاعرية كلاما أقرب إلى الخرافية واكتساء ما يمكن أن أسميه الجهل أو التجاهل للأشياء واختلاط المفاهيم في الذهن ، إنها عودة إلى موقف شعري ، قبل الشعر وقبل النثر ، موقف بدائي ولا شك . إن الشعر يرتضي أن يكون أكثر العلوم جهلا وتجاهلا للأشياء ، خلقا لها بشكل آخر ، فالشاعر إذ يقف أمام دمعة حزن في العين ويراها بلورا ودرا منثورا إنه ليس سخيفا إلى هذا الحد بقدر ما هو رؤية استقبالية تختزن أملا مفقودا أمل لو كانت دمعة الحزن شيئا آخر ، لذلك أعود إلى نظرتي إلى الكتابة ومضمون الكتابة مؤكدا على أننا استنفذنا الأشكال الموروثة متحفية مستوردة ، طبقنا في كتاباتنا حدود كل المدارس وقد نكون بلغنا شعرا ولكنه شعر تبعي إلى الخليل في طرق تفجيره تبعي للعالم المتقدم في أبعاده وأشكاله أيضا ، خصائص اللغة الفرنسية مثلا ليست خصائص اللغة العربية ، رصيد هذه اللغة الحضاري التاريخي ليس رصيد العربية ، قد يكون أقل أو أكثر ، هذا ليس مهما ولكنها ليست نفس الخصائص ، نعم إن التجربة الانسانية تظل واحدة بالرغم من تنوعاتها ولكن التعبير عن التجربة إذا افتقد خصوصياته الحضارية التاريخية اللغوية فقد مسخ ، وقد يواجهني مواجه إذن لماذا نقبل قصيدة النثر فأقول بأن كل الحيوانات تصدر أصواتا وإنها مشتركة في صفة الحيوانية ولكن بعضها يموء وبعضها يزأر وبعضها ينبح وبعضها لايمكن أن ينبح إلا وهو يعض أو يتراجع وإنها الخصوصيات التي افتقدناها .
       إن مقولة أن الأدب عالمي قد تصح ولكن من يروجونها يروجون أيضا للقوالب والأشكال التي وضعوها هم. ماذا وضعنا نحن عدا ما وضع الخليل ؟ وصلنا إلى تثوير اللغة وصلنا إلى نثرية القصيدة، إلى الكتابة الأوتوماتيكية ، إلى تطبيق مختلف المدارس النفسية والأدبية عموما على أدبنا العربي ؟ وكنا مستوردين وظل أدبنا غير ممثل كل التمثيل لحقيقة تحولات العالم العربي ، لا زالت القصيدة إطرابا للأذن إنشادا ولا زالت المضامين عبدة لا يمكن  أن تكون إلا تابعة ، المواصفات اختلطت ، ومعنى هذا أن البحث عن أشكال تفجيرية للشعر العربي أمر مطروح ، ولا أعتقد أن الشعر العمودي يمثله اللهم في خلق غنائيات محدودة نفسا وموضوعا وهي مرتبطة بالمترفين ومطربيهم ، إني لا أرى الشعر العمودي الآن حيا إلا على الأعتاب ، ولا أعتقد أن النثرية بانطلاقاتها تجسد البديل لتحطيمها للعروض والفواصل بين كتابة وكتابة ن لعلهم في القديم اختاروا إيقاعاتهم وحدوهم وعاء لحفظ إبداعهم وقد حفظ الإيقاع ووعى وظل في الصدور ونحن لا نكتب وننتظر من الرواة تناقل قصائدنا فنسهل عليهم مهمة استرجاعها بالمجالس . إن الشعر لم يعد بضاعة يخرجها الساحر من قبه ليدهش  المجالس ، ثم هذا التكثيف الشكلي هذا الحبس للتجربة في نطاق محطات وقوف تذكر بما مضى وتعد بما سيأتي تطرح صائتا لينذر بأن صامتا بعده أصبح متجاوزا. أن تحفظ القصيدة أمر لم يعد مطلوبا باعتبار أن ما يعمله حماد الراوية طوال عام قد تقوم به الصحيفة في دقائق وبذيوع أكبر.
       إنهم يريدون جعل الشعر علم الخاصة ، يحتكرون الثقافة مع أنها رأسمال شائع بقدر أو بآخر لدى الجميع ويمكن التأكيد لذلك بإبداعات الشعب في أمثاله وحكمه وممارساته الخلقية عامة .
       إن القضية ليست قضية شعر أو  نثر ، إنها قضية تعبير بالدرجة الأولى وإن أغلب الكتاب تدرجوا شعراء ثم قصاصين أو العكس أو اختلط عليهم الأمر وهم يبحثون عن التعبير الشامل ، ولعل احتفالية برشيد في المسرح اقتراب حقيقي من أصالة الانسان وأصالة تعبيره وشموليته ، وأعتقد أن الشعر أيضا يجب أن يرتد إلى أصوله التي افتقدت وما تبقى منها عبر عمليات النحت والتعرية على مر التاريخ إلا الشظايا والأشلاء والأشباه . سألتني العلم عن قصيدة النثر وقد حددت موقفي وإن لم يتجل ممارسة واعتقادي راسخ في أن المشكلة ليست قضية أو ظاهرة قصيدة النثر أو غيرها من الظواهر بقدر ما هي قضية قصيدة الشعر نفسها ، وهذا ما يجعلني في الوقت الراهن أقف بمحطة من خلالها أصرح بأنني أجهل الشعر أجهل النثر وأعرف الكتابة .
                                                                  رابح التيجاني .الرباط
         (مساهمة في ملف عن قصيدة النثر سبق
                        ان احتضنها الملحق الثقافي لجريدة العلم )
    الهوامش :
-       (1) من كتاب " الشعر كيف نفهمه ونتذوقه " إليزابيت درو ترجمة الكتور محمد ابراهيم الشوش ص 49.
-       (2) عن كتاب " شعرنا الحديث إلى أين "غالي شكري ص82.
-       (3)" الأدب الملتزم " لجان بول سارتر ترجمة جورج طرابيشي ص 78و79.
-       (4)إشارة إلى كتيب الدكتور نعيم حسن الباقي " الشعر بين الفنون الجميلة " سلسلة إقرأ العدد 192.
-       (5)في موضوع نبرية اللغة الانجليزية ومقطعية اللغة الفرنسية والشعر غير العمودي وغير الحر اعتمدت بعض أعداد مجلة الفكر التونسية .

الاثنين، 25 يوليو 2011

مغربة الأغنية ، كيف ؟ .. رابح التــيجاني



مغربة الأغنية المغربية .. كيف ؟
رابح التيجاني

     قيل عن الموسيقى إنها واحدة من بين مائة فن من فنون السحر والفتنة كان على الشيطان أن يكشف سرها للبشر تقربا منهم وتوددا، وهذا القيل استهجان ما في ذلك شك ،وتطير من قرع الطبل وصفير المزمار ، ولست أورده إلا للتدليل على ما للموسيقى من قوة في تهييج الوجدان والإثارة والغواية ثم ما لها من أثر في خلخلة الجوانيات ورأب تصدعات النفس وتمزقاتها التماسا للسكينة والراحة والإنتشاء ،ولا جدال في أن بناء أو هدما بهذه الجسامة يتطلب شيطنة وعبقرية وذكاء وروحا إبداعية مدركة لخفايا توظيف لغة متميزة في التعبير والتأثير، لغة لا تعتمد غير تصاعد أو تنازل الصوت عبر محطات سبع في خضوع للايقاع أو الإسترسال ، للقوة أو الضعف ،للانضباط أو الموال ، للهمس أو الحدة أو الإنفعال ،لتعبئة الزمن بالنغم أو الصمت ،، لغة تعانق التجريد ، تحاكي بالنقرة والدندنة حركات النفس وشحنات القيم ومظاهر الكون وتحاول أن تكون لغة فوق اللغة ، أكثر إحاطة وسبرا للوعي ولا وعي الكائن من الكلمات أو الرسم أو الرقص أو الرياضة وغيرها من الفنون ووسائل التبليغ .

    كذلك هي الموسيقى في شموليتها ومعناها العام ، ولكن الإهتمامات تكاد تنحصر أو تكاد في الأغنية ،ومن الممكن أن لا نفرض فوارق بين الموسيقى عامة والأغنية خاصة ، لو كان استغلال الصوت الإنساني باعتباره آلة معبرة تضاف أو تتصدر ما اكتشفه الإنسان من آلات موسيقية مصاحبة أو مكملة ، ولكن استغلال الصوت مع الأسف لا يتعدى الإلتجاء إلى فن آخر غير الموسيقى هو الشعر وأداء الكلام ،لإضفاء المعنى على الموسيقى المجردة أو مزج وربط المقاطع الموسيقية المجردة بكلام له معنى ، ومع الأسف ثانية إذ يكون الكلام المغنى لا ارتباط له في مضمونه بإيحاءات الموسيقى المعزوفة وإيقاعاتها ومقاماتها .

     وإن الحديث عن الأغنية بدلا من الموسيقى إذن، هو انتقاص من قدر وقيمة الأغنية ، ومع ذلك فالحديث عن الأغنية ذاتها في المغرب هو حديث ذو شجون لا يصل بنا لا إلى أصول متجذرة ولا إلى حاضر واضح المعالم أو آفاق واعدة ، فالرجوع إلى جذور الأغنية المغربية لن يتدرج بنا عبر مراحل متطورة لأننا لا نتوفر على رصيد تاريخي محفوظ يساعد على تتبع سيرورة الأغنية في مسار محدد وانطلاقها إلى الآن، ولا تسعفنا ذاكرة الجيل الحاضر أو السابق في التعرف على العمر الحقيقي للفن الغنائي بالمغرب ، وهي في عمومها تتوزع بين حماة التراث ومتعاطفين مع الإرهاصات الشعبية في المجالس والأعراس والحلقات ،إلا أن هذه الإسعافات لا تصل بنا إلى غير الإنشاد ، وليس إلى الأغنية ،فالإنشاد ، ونقضا لما سلف من حديث عن شيطانية الموسيقى ، ترعرع في أحضان الدين ،تجويد القرءان وترتيله ، وإنشاد البردة والهمزية والأذكار والأوراد وفق مقامات الحجاز وتنويعاته غالبا وباقي المقامات ، وإيقاعات "البلدي" و "الحضاري "، ثم في أحضان الطوائف الطرقية التصوفية من عيساوية إلى حمدوشية وهداوية ودرقاوية وجيلالية وتهامية وتواتية وكناوية وعداها ، وهي تتوزع في مقاماتها بين " الرست "و "الجهاركاه " و"الحجاز "و "البياتي " و"السلم الخماسي " وفي إيقاعاتها بين إيقاعات الحضرة والإيقاعات الصحراوية ، وهي بناءات موسيقية تتوسل التكرار والترديد لقوالب نغمية وإيقاعية وتهتم بالكلام أصلا .
     وبعد ذلك ومن خلاله ،لاغرو أننا مدعوون إلى تحديد مكانة ومدى تأثير أنماط غنائية كالطرب الأندلسي الذي حافظ على نوباته وميازينه الموريسكيون ونقلوه أساسا لشمال إفريقيا واهتمت أسر شهيرة بصيانته وتعهده ،والطرب الملحون  المنتعش في  أوساط الحرفيين والطبقات الشعبية البسيطة والمتوسطة وداخل شرائح من المثقفين،وليس بخاف مدى غنى وعظمة هذين المكونين التراثيين ، وفي نفس الآن فإن رهبة التجديد في الموسيقى الأندلسية يجعلها دائما في خانة التراث المرتبط بالماضي ولذلك وجدنا من ينحو لتحديث هذه الموسيقى وتطويرها وانفتاحها على المستجدات الموسيقية من آلات وأساليب وتقنيات التوزيع والهارموني ، ولكن تقل المبادرات لإنجاز وإبداع ألحان جديدة وفق النمط الأندلسي باستثناء مبادرات لأقطاب كعبد الوهاب أكومي وعواطف والرايسي ، كما أن الملحون باقتصاره وتركيزه على الإنشاد للقصائد، حصر دائرة التطور في هذا الإتجاه ،في الشعر أكثر من الموسيقى ، علما بأن القوالب اللحنية في الملحون معلومة والقياسات كذلك والميازن والصروف محددةوبالتالي فإن هذا النمط يمثل بنية مكتملة نادرا ما يسعى رواد هذا الفن لتخطيها تقديسا للتراث ،وما يدعو إلى الدهشة عدم استيعاب الملحنين الجدد المهتمين بالموسيقى المغربية إلى هذه الجذور الأصيلة أو عدم قدرتهم على بلورتها في أعمال غير اجترارية فقط ،بل ممثلة لها ومتجاوزة أيضا ، محاذية للعصر وللمؤثرات الأخرى التي تشكل الوجدان المغربي ،يجعل من هذا الرصيد في حالة إقحامه دون استيعاب له ،غير مؤثر في تطور الأغنية  التطور المنشود .
     وفي نفس السياق فإن ما يسمى بالفلكلور أو الإبداع الشعبي  وهو مصطلح ينسحب على طرب مناطق مختلفة من الشمال إلى الجنوب ، ويتميز بثراء واضح ، ظل متروكا للإعادة بدل الإفادة والإستثمار لصنع الأغنية التي تستحق صفة المغربية حقا ،أين الطرب الجبلي وأين تجلي العيطات وأهازيج الحوز، أين بصمات أناشيد الروايس ،أين إيقاعات الصحراء.

     إن أغنيتنا بقدر مالها من إمكانيات الإغتراف من روافد تراثية وفلكلورية غنية ، تعاني حقيقة من مشكل القدرة على بلورة الصيغ المجسدة لغنى واضح ،إذ أنها أمام تنوع بالإمكان صهره ولكنه ظل إلى الآن شتاتا، لسبب واحد هو العجز عن تمثيله وتوظيفه في الأغنية التي يراد لها أن تشيع وأن تسمى بالأغنية المغربية ، أو لسبب آخر هو الإنحياز أثناء الإبداع لنموذج أو اتجاه أو نمط معين ، محلي أو شرقي أو غربي .
    إن الأغنية المفروضة على أسماعنا ، هي أغنية لا تجد صدى لها إلا بالمدن ، وببعض المدن فقط ، وداخل فئات معينة ، ولذلك يجوز لنا أن نسميها بالأغنية المدينية أو الأغنية المدائنية، وخارج هذا الإطار لن نجد إلا تذوقا للطرب المحلي أو التراث ،وجهلا مطلقا أو نسبيا بالمطربين والملحنين الذين تلهج الإذاعة ليل نهار بترديد أسمائهم، لذلك فالحديث عن الأغنية المغربية مجازفة ومبالغة لن يمررها واقع الدعاية ، إننا على سبيل المثال في عين اللوح وفي خنيفرة لا نعرف غير الرويشة ، وبالرشيدية لا نعرف غير باعوت ، وبالشمال نسمع الكرفطي والعروسي وبسوس الحاج بلعيد وبأسفي فاطنة بنت الحسين وبتيداس وولماس نسمع عتابو، ،، ولكن بلخياط والدكالي وعزيزة وسميرة ونعيمة وباقي الأسماء لا تروج الرواج الشامل في كل مكان بأرجاء الوطن ، وتظل أحيانا معروفة في أوساط محدودة ، وفوق ذلك فلمجالس اللهو والغناء مطربوها الذين يستلهمون غناءهم من تراث أجنبي أو غربي عامة يقتحمها الفلكلور للفرجة ،والسبب في ذلك أن الأغنية العصرية لم تتشكل بعد بالمواصفات القمينة بها ، وأنها لم تستطع إثبات وجودها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وداخل كل الفئات والأجيال، لأنها تابعة ومستلبة ودائخة في تحديد مصادر تكوينها ولم يتأت لها أن تتبلور على يد ملحنين مهرة يمنحونها مواصفاتها وسماتها الجديرة بها باجتهادهم وبحثهم واغترافهم من رصيدهم الحضاري الفني وبعدهم عن الإنجاز السريع ،غير أن الحكم  لا يكتسي صبغة الشمولية فنحن واجدون أسماء كبيرة قدمت روائع جميلة ومؤهلة لتقديم المزيد في نطاق تصور رحب لأغنية ناجحة تكتسح الآفاق.

           ما هي المصادر التي يمكنها أن تشكل قوام الأغنية العصرية ،أهي التراث أم الشرق أم الغرب أم الذات ؟ نعتذر لأقطاب كمحمد فويتح وابراهيم العلمي وعبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام  وعبد القادر الراشدي الذين تختزن  محاولاتهم جملا موسيقية تراكيبها مغربية صميمة ، ولكنها تبقى شذرات لا ترقى في كلياتها إلى السيطرة على وجدان المغربي حيثما وجد ،إن هذه الأغاني ممتازة ولكنها في حاجة إلى أن تنهل أكثر من الينابيع الصافية العديدة والمشارب الشافية التي يرتاح لها المستمع  أيا كانت الشرائح والفئات التي ينتمي إليها ، نريد أغنية مسموعة ومحبوبة وذات شيوع أكبر ولن يتأتى ذلك بدون تقدير مختلف الأذواق وبدون الإستئناس الذكي بالعناصر المكونة للذائقة المغربية ،إننا لا يمكن أن نتصور أن لأصحاب الطاكسيات مطربيهم وحدهم وإن للحرفيين مطربيم وحدهم أيضا وللمثقفين أغنيتهم وهكذا ،وإن العائق ليس في اختيار الإيقاع والمقام – ولا نتحدث عن المضمون وأهميته الآن ،- ولكن في استخدام الإيقاع والمقام للتعبير بأسلوبية مغربية ، ونتساءل عن ماهية هذه الأسلوبية ونحتار حقا إذ نجد أن ما يعتمل بالأرض المغربية من تلاوين الأجناس الموسيقية غزير وكثير ، فمن صوفية آسيا تقبلنا الربع مسافة ومقامات غارقة في الروحانية ، ولا أقول الحزن،كالصبا والنوى أثر والشاهناز والجهاركاه والنكريز والسوزناك والسوزديل وفرحفزا والحجازكار والحجاز كورد والهزام وشدعربان وراحة الأرواح وغيرها ، ونقلنا من إفريقيا إيقاعاتها وسلمها الخماسي الذي يوجد بمناطق أخرى ،وتعاملنا مع مقامات الغرب الماجور والمينور ، وتشبعنا بتراثنا بنوباته وفلكلورنا المشبع بالمقامات بأبعاد مسافاتها العادية والتويعات والإيقاعات البسيطة والمركبة ، ولكننا أمام هذا الكم الهائل وخاصة التراث التراكمي الإنشادي والفلكلوري لسنا نصل إلى فرض أغنية نستطيع أن نقول إنها تختزل أنماطنا الغنائية ، لأننا نعدم لحد الآن ، رغم وجود قدرات فنية هائلة إمكانية صهر كل هذه المقومات في أعمال استقطابية لكل مكونات الشخصية المغربية ، ولذلك نحن مانزال نعاني الفئوية والطبقية حتى في التعامل مع الموسيقى ،أرستقراطيون لهم موسيقى الأندلس والسمفونيات ، بورجوازيون لهم أغاني المدن وموجات الغرب والشرق ،شيوخ وحرفيون  لهم الملحون والتراث ،شعبيون لهم الفلكلور والأغنية الشعبية .
ولقد استطاعت الأجيال حقا في سياق تاريخي أمثال ناس الغيوان وجيل جيلالة أن تحرق الفواصل بين بعض المراحل فاقتبست الإيقاع والكلام من التراث وقدمت روائع جميلة لكنها اختصرت الباقي في التمظهر الشعبي واقتصرت على ذلك ولم تستطع ولوج مجال الموسيقى أو على الأقل مجال إنجاز أغنية مغربية بالمواصفات المشروط توافرها لتحقيق الأغنية ،وهي بدون شك تتعدى الكلام والميلوديا واللحن والأداء إلى إيلاء الموسيقى معبرة ومتناغمة وموزعة توزيعا أوركيستراليا متناسبا فيما بين ما هو معزوف وما هو موقع ومنطوق ، مكانها وقيمتها .
     وقد نتساءل في مضمار هذا الخضم من المعطيات ، ماذا على الملحن أن يختار ليبدع لحنا مغربيا ، أعتقد أن لا اختيار في الطرح مادام تكويننا خلاصة كل هذه المعطيات ، إننا لن نرفض صوفية المقامات الشرقية ونستعيض عنها بالزيدان  والكباحي  وتسميات مغربية لمقامات قريبة  أو تختلف اختلافا بسيطا عنها لأنها حقا تحمل شحنات تعبيرية عميقة ، ونحن ننفعل بها وربما قد نكون ساهمنا في إثرائها ، لن نرفضها بسبب ربع المسافة لأن هذا الربع وربما ثمن المسافة ، ميزة تفتقر إليها موسيقى الغرب – رغم عالميتها –حيث لا تجد في أقصى حالات حالاتها الدرامية والمأساوية للتعبير عن الحزن سوى مقام واحد هو المينور ،أما الربع مسافة في كثير من المقامات الشرقية فهو مجال رحب للتجلي الروحي ، وأفضل الأمثلة المعزوفات الهندية والتركية وكثير من ألحان رياض السنباطي التي تميزت بمنتهى الجلال والفخامة خاصة في توظيف مقام الرصد بمشتقاته والحجاز والصبا والشاهناز،إن انصراف أغانينا إلى المعين الشرقي أمر لا محيد عنه وهو يؤكد هويتنا ومتمثل في تراثنا الصوفي ،ولأن تطور هذه المقامات الشرقية تم في أتون الإنصهار بالمعاناة الروحية وبالتالي فهو معبر عن خلجات عميقة وأصيلة فينا ،ولا يمكن تصور نشاز بعضها إطلاقا كما يعتبر الغرب ذلك في حكمه على الربع مسافة ، وإنما بالقدرة على الإقناع بجماليلتها وقدراتها التعبيرية .
     أما الإلتجاء للمعين الغربي فنحن مشدودون إليه بحكم المعاصرة وخاصة للوصول إلى ما راكمه من تقنيات عظيمة وما حققه من إبداعات في مجال البناء الموسيقي والتراكيب الملحمية في السمفونيات والأعمال الأوبرالية وحتى موسيقى البوب ،،ثم استغلاله الجيد للإيقاعات الإفريقية ولوجا لرحاب موسيقى الرقص والتفريغ وتأطيره لكل ذلك في سياق أسلوبية سيكولوجية استقطابية لهموم المجتمعات الإستهلاكية والمتخمة حضاريا .
       وبالنسبة للتراث فهل نملك غير الرغبة الحسنة في فرض سيادته بترديده ، وكيف يتسنى لنا ذلك لاسيما وهو لا يفتقر إلى عناصر نغمية وإيقاعية ،وعن فولكلورنا فأمر صهره في إطار إبداعات وطنية لا تقتصر على الإقتطاف ، أمر متروك لمبدعينا الذين لا ينقصهم غير تنكب المسايرة لمنطق الإستعجال والتعامل التجاري والإعلامي للتفرغ للبحث والإبداع الحقيقي المعبر عنهم وعن وجدانهم ووجدان كل الشعب وليس عن شرائح محدودة تستهلك الطرب الأندلسي كما تستهلك طرب الشيخات وطرب الملحون وسمفونيات بتهوفن وتقاسيم شنكار والروك آند رول ومجرد عيساوة وأغاني بلخياط وسامي المغربي دون تمييز ودون تذوق أو تعاطف أو تفاعل .
      إن الوصول إلى الأغنية المغربية رهان تاريخي ويستوجب اجتهادا واعيا ،نحن لا نعدم أطرا موسيقية مقتدرة ، لكنها في إبداعاتها تصرف قدراتها لخدمة وإشاعة اتجاه لحد تشييعه ،إن من يعتقد أن الأغنية المغربية هي في الربط بأنماط كلا سيكية لن يفرضوا انتاجهم رغم خضوعه لضوابط علمية ، وإن من يظن بأن الأغنية المغربية هي الحضرة والجدبة لن يحقق الشعبية المطلوبة رغم نجاح بعض الأعمال في هذا السياق ،وإن من يرى الأغنية المغربية ترويجا لألحان المشارقة لن يحققوا مغربية الأغنية ،كما أن من يندرجون   في نطاق الفلكلور وهم كثيرون لن ينالوا القبول إلا من فئات محدودوة ، وكذلك فبعض التجارب لا تقدم إلا نماذج قريبة من الإنشاد وقراءة الشعر وفصل فقراته بمقاطع موسيقية رغم جودتها من  ناحية البناء الموسيقي لا تتجاوز  مستوى القراءة الإيقاغية المنغومة أي لا تتجاوز حدود الإنشاد المشبع بقليل من الموسيقى ، وعلى هامش كل ذلك فالمواهب الصاعدة في التلحين لايمكنها بسط انتاجها في غير بعض الحواضر وداخل نطاق محدود رغم تكريس وتزكية الإذاعة لأن  في ألحانهم يراعون سوقا محدودة، وربما جاز لنا أن نستثني بعض المحاولات المعانقة لألحان تعبيرية تراعي تصوير الكلمات موسيقيا ، وربما قد تدرك هذه التجارب نجاحات في الوصول إلى تحقيق الإنسجام بين الكلام والموسيقى ،وبالتالي إلى تجاوز الإنفصام الحالي الذي يتلبس معظم الأغاني المغناة ، وأكيد أن تجوز هذا الإنفصام ليس كافيا ،  أن المطلوب ليس إنتاج موسيقى ملائمة لمضامين الكلمات وإنما المطلوب التعبير وعكس الوجدان المغربي كلمة ولحنا وأداء ، ثم استغلال كل تقنيات علم الموسيقى من هارموني وعزف وتوزيع أوركسترالي مع الأخذ بخصوصيات تراثنا وأنماط غنائنا الجهوية والطرقية والشعبية ، ليس على مستوى الإقحام وإنما التمثل ،وليس من داع إلى الجنوح إلى الشدة في إصدار هذه الأحكام إلإ اليقين بأن أغنيتنا مؤهلة لأن تكتسح السوق العربية وليس المغربية فقط لما يتوفر لها من أسباب النجاح .         
    إن الأغنية المغربية تعيش معضلة تتلخص في التأرجح بين التبعية وإثبات الذات ،، إننا لا نعدم المقومات ولدينا إرث حضاري وليد المثاقفة والتفاعل ولدينا خصوصيات متميزة وغنية لا تحتاج إلا إلى عبقريات موسيقية قادرة ليس على الذكاء في استعمال المقامات الشرقية أو قادرة على الإنفتاح على على علمية الموسيقى أو قادرة على تجسيد نماذج من التراث الشعبي وتقليدها ، وإنما قادرة على الإحاطة  بكل العناصر والشتات الموسيقي الذي تحبل به الساحة المغربية ،وأكيد أن لبحث المبدعين وإسهام وسائل الإعلام في تقريب الشقة والمسافة بين الأنماط المختلفة بطرح النماذج الموجودة دون حيف ، دور في الوصول إلى خلق ذوق عام لنمط معين أو نموذج يكون بديلا شاملا لكل الثراء والتنوع في مجال الغناء .      
      إنني أجد العذر للمعجبين بالأغنية السطحية الرديئة حسب حكمنا،هي أغان ممجوجة من طرف فئات تتظاهر بالذوق الرفيع ، ولكن ذوقها لا يختلف عن مجرد مثال تكديس جاهل للمجلدات وأسطوانات موزارت وبيتهوفن وشتراوس وهايدن ومعزوفات منير بشير وسلمان شكر للديكور والتظاهر فقط ، هذه الأغاني التي نسميها أحيانا شعبية رغم فقرها لمقومات الموسيقى تتميز بالصدق على الأقل ،فماذا فعلت الصفوة لتحقيق هذا الصدق على مستوى إبداعي رفيع ؟إنهم يحتقرون إنتاج البسطاء فإذا فرض الإنتاج مكانته على مستوى معين حتى بالملاهي جاؤوا لينقلوا منه جملة يضمنونها أغنية لهم تستلهم الشرق والغرب ، ولا تعبر عن شرق أو غرب أو مغرب ، تظل خليطا ممجوجا يختفي بعد إذاعته بمقبرة الأسطوانات ،أو يذاع دون أن يلتفت إليه أحد ،في حين تبقى أغان رغم بساطتها أنتجها مبدعون أوائل الإستقلال حاضرة وذات توهج ، وقد نجد تفسيرا لحنين الكثير إلى أغنية الخمسينيات والستينيات إذ هي جزء من الذكريات ، والإنسان بطبعه مرتبط بذكرياته لأنها منه ، واندراجها في الماضي هاجس حاضر إلى الأبد يبعث التساؤل الخالد على كل إنسان حول معنائية الحياة وبالتالي التشيث تشبث الغريق بكل لمحة وكل صورة هاربة ، ولكننا مع ذلك هل نعتقد أن أغنية السبعينيات والثمانينيات ستجد من يتلهف شوقا لسماعها   في القرن المقبل ؟إن أغنية الماضي كانت على الأقل تحمل تلك المسحة الصادقة من الرومانسية والحزن المتولد عن ظروف الحرب العالمية والإستعمار ، أما أغنية السبعينيات والثمانينيات فلا ملامح لها غير التجريب المعاد والتوزع والضياع في الإختيار .                      
      نستخلص مما سلف أن الأغنية في المغرب لا تزال في مرحلة المخاض ،وأن التجارب الشائعة ليست إلا إرهاصا وبواكير لم تستطع بعد أن تلملم كافة الشتات الذي بتجميعه وصهره فقط نستطيع الوصول إلى أغنية مغربية يحق أن تسمى كذلك دون تشكيك في تبعيتها للمشرق أو الغرب أو خضوعها للأصول التراثية أو الفلكلورية أو مسايرتها للإنتاجات البسيطة على مستوى متطلبات السوق والإستهلاك العابر .                                
       إن الأغنية المغربية لا تزال في مفترق الطرق ، والملحنون يدركون هذا لا شك ، وتوزعهم في الإختيار والمنطلقات دليل على ذلك ، إننا نلمس حيرة في اتجاهات الملحنين ،فهم تارة يستلهمون إنشاد عيساوة وجيلالة وهم تارة يغلفون إبداعهم بإيقاع صحراوي أو جبلي أو نغم كناوي ، وهم يستندون إلى الموشحات حينا وإلى الأندلسي وإلى الملحون وهم يجترون الدقة والطقطوقة ،وهم أيضا ينحتون مقاماتهم من المقامات الشرقية الشهيرة ، ولكن المأساة أنهم عبر هذه الإتجاهات يضيعون في المتاهات غالبا، فيأتي الملحن منهم بمقطع "صبا "وهو مقام حزين ،غلافا لكلام في منتهى الفرح ، ويؤطر آخر كلاما ماجنا عبر إيقاعات ومقامات ترعرعت في ظل الطوائف المتصوفة ، ويمزج ثالث مقامات متنافرة في سياق واحد ، ويورد رابع تنويعات لا هدف من إبرادها إلا إظهار المهارة ، علما بأن مزج المقامات والتنويع فيها والتلوين فلسفة تعبير ولغة راقية تتوازى مع الموسيقى التصويرية ودلالات السمفونيات التي تحكي ملاحم وروايات ،فلا يكون تدخل آلة إلا للايحاء بشيء ما ، ولا يكون تمازج آلالات أيضا إلا لذلك ، كما لا يكون تغيير المقام إلا لدواعي تعبيرية ، أما لدينا ، فإن الجوق بكامله يؤدي ما يؤديه عازف واحد ، وانفراد آلة بالعزف لا يأتي لتقديم "صولو "معبر أو لتبيان قدرة هذه الآلة في تجسيد فكرة أو صورة أو معنى أو إيحاء ، وإنما مجرد محاولة لتحطيم روتينية العزف الجماعي الممل ، وهذا يعني انتفاء فن التوزيع الأركسترالي لدينا واعتبار وجود جوق أثناء إنجاز الألحان ،ويعني أكثر أننا لم ندرك بعد أهمية تناغم الأصوات والألحان التركيبية والهارمونية .                                      
       أما استخدام الإيقاعات والمقامات فعمل لا يحظى بالعناية إلا من طرف قلة من الملحنين نخص بالذكر منهم عبد السلام عامر وعبد القادر الراشدي وعبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام وابراهيم العلمي، الشرايبي ، الإدريسي..، واستخدام هذه المقدرات أصلا ليس ميسورا لكل مدرك لأبعادها ،لأن هذه المقدرات ليست مجرد قوالب تستوعب كل تفريغ ، إنما هي مجالات تتطلب تتطلب كثيرا من الجهد في توظيفها حسب الحالات ،رقة أو حدة ، همسا أو غضبا ،بطئا أو سرعة ، فرحا أو حزنا ، انشراحا أو اكتئابا ، ثم إن المغنين يسيرون بطبيعة الحال وفق المرسوم من الألحان ويزيدون الطين بلة  إذ لا يفهم الكثير منهم أن الصوت لا يعني مجرد توفر طبقات حادة أو صادحة أو قرارية ، وأنه ليس القوة فقط  والصراخ فقط والبكاء فقط ، وإنما هو القدرة على التعبير بكل هذه الطاقات همسا وحدة ،خفوتا وانطلاقا ، درامية واستبشارا تبعا لمميزات اللحن .                                                              
         إننا إزاء الكم الهائل من الأصوات لا نستطيع إلا أن نقول إن هذا الصوت جميل أو مقبول ، أما مواطن الجمال فهي ضائعة ، لم نتبينها في خضم الخليط من الأداءات الكرنفالية ،هل نملك أن نقول إن لنا أصواتا أوبرالية أو سوبرانو أو طينور أو باريطون  ،إن لنا أصواتا ولكنها ضائعة في لجة الأداء الفج ،حيث أن أصواتا ما يجب أن تتميز مثلا في أداء أغاني معينة وليس أي لحن وارد فهناك أصوات هامسة(ماجدة) وأخرى تطريبية(سميرة) وأخرى قوية (بلخياط)وهكذا ، ولكن واقع الحال يفرز إنتاجات لا ضابط لها إلا الرغبة في الظهور كيفما كان هذا الإنتاج ،ولا معيار يحكم تقديم الإنتاج إلا مراعاة شهرة الملحن والمغني ولا أقول المطرب ، إذ من المغنين لا نعثر إلا على قلة تستطيع أن تطرب ، وبمعنى آخر تملك أن تبدع بصوتها وملكاتها داخل إطار اللحن المرسوم ،فالغالبية تستظهر الأغنية كدرس مدرسي ،وبمجرد محاولة الإبداع تسقط إما لمحدودية الصوت أو عدم ضبط الإيقاع أو الخروج عن المقام أو عدم القدرة على التحليق والإبتكار ، وهذا راجع في أحيان كثيرة لضعف التكوين الموسيقي والمقدرة الفنية أو تهيب الإرتجال ، ولا تفوت الإشارة إلى عدم الإدراك للفارق بين أداء الصوت المفرد وأداء الكورال أو المجموعة الصوتية حسب الحالات ، بحيث لا يظل اعتبار المجموعة الصوتية مجرد وسيلة لترديد اللازمة.                        
        أما بالنسبة للشعر ومضمون الأغنية ،فمن المسلم به أن اختيار الكلام الهادف ، ولا نستثني شعر الحب ضرورة تساعد على الرفع من مستوى الأغنية المغربية ، وإن المطلوب ليس هجر الكلام عن الحب وإنما الإرتفاع عن الإبتذال ، لأن الحب قيمة إنسانية خالدة ، مع السعي لتناول قيم وهموم المجتمع والناس وأفراحهم ، والوصول لمعانقة القضايا بسيطة وعميقة ، بأساليب غير معقدة ومنفرة ،وأكيد أن للشعر أيضا ،فصيحا ودارجا ، معضلاته التي على الشعراء والزجالين أن يسهموا في تجاوزها خلقا لكلمات أغان في المستوى المأمول ، بقيت مسألة التسجيل ، وأعتقد أن تقنياتها لا تتطلب غير الدعم المادي لإحداث استديوهات كبرى وتكوين المزيد من التقنيين الأكفاء ، خاصة وأن كثيرا من التجارب الموسيقية لا يمكن أن تتجلى روعتها في التوزيع والهارموني والغناء والعزف إذا كان التسجيل غير جيد .                                            
                                          
     وختاما فإن البحث عن حضور قوي للأغنية المغربية لايعني مطلقا غياب هذه الأغنية ، فنحن نطرب لأغانينا قديمة وحديثة ،ولأصناف تراثنا وغنائنا ، ولكننا نريد للأغنية أن تكون في توجهاتها أكثر إنسانية واهتماما بالإنسان عبرمختلف مواقفه وحالاته ومسيرة حياته ، وبالتالي أن تدرك ما على عاتقها من وظائف اجتماعية وسيكولوجية وعلى مختلف الأصعدة ، وأن تكون بديلا شاملا لكل الشتات المتناثر ومجالا لتجلي ثراء وغنى فلكلورنا وغنائنا الشعبي وتراثنا ن ومرآة تعكس حقيقة قدرة الذوق المغربي على احتضان أنماط عديدة وأشكال متنوعة ، والإنفتاح على تجارب كثيرة ، واستطاعة التعبير عن ذاته بشمول وإبداع تعبيرا يحفظ الأصالة ويحقق المعاصرة والغايات المنشودة التي لا تنحصر في الترويح أو البكاء.                   &nbs`;                                
رابح التيجاني       
مقال نشر بالملحق الثقافي للعلم قبل أزيد من عقدين ،ارتأيت نشره منقحا ، وأسجل أن كثيرا من الإشارات الواردة تم تجاوزها بحكم الطفرة التي عرفها مسار الأغنية المغربية والموصولة بكثير من العزم لإحلال هذه الأغنية ما هي جديرة به من مكانة وشيوع بالنظر إلى مميزاتها ومؤهلاتها .

الجمعة، 15 يوليو 2011

دون كيشوت أديبا .. رابح التيجاني


دون كيشوت أديبا

                                 رابح التيجاني

     لا أعتقد أن جغرافية الشعر سهول مستوية فقط ، حتى ولو كان الشعراء وقراؤهم لا يستلذون من الشعر إلا انبساطاته المترامية أوزانا وقوافيا، ولا أعتقد أن الشعر غابة غير مضبوطة الممرات أو أنه أقبية فوضوية السراديب والمتاهات ، لا أعتقد أن الشعر جماليات مشاعر وأفكار، ربما قد كان ذلك ، كل ذلك ، غير أن شعر اليوم لا بد أن يكون شيئا آخر ، تجاوزا كما كان الشعر أبدا ، رؤية ورؤيا تتجسد شكلا داخل لبوس عصر تخطى ميزان الذهب وميزان الفحم وآلات التصوير البيانية والبديعية...ونحن تلاميذ في المدرسة قبلنا الشعر تاريخا..وها نحن أمام فظاعة اليوم وتقدم اليوم نقف مشدوهين نضحك من هذا الشعر، عاهة إنسانية ، مرضا مستلطفا محبوبا ،نزقا وخربشات طفولية بدائية تتمسك بالأوجاع والتأوهات والجماليات المعبرة عن ما هو جميل وعن القبح الشنيع والأزمات والإنكسار . نضحك .. ومن منا لم يضحك ساخرا من شعر اليوم والأمس أيضا ؟ من منا لم يستخف بالشعر حتى ولو كان شاعرا ؟

       لكم شعرنا بالدونية عندما كنا مصنفين بقاعة الدرس في إطار أدبي وكم حاولنا إقناع أنفسنا والآخرين إذا قالوا مثلا شعبيا أو صدر عنهم دون شعور تعبير جميل مضبوط أن ما قيل    إبداع رائع وشعر بديع موهمين أننا بشعرنا لسنا أقل علما من أتباع العلم . 

       مفلسة هذه البضاعة، مضيعة للفكر ومفسدة في أرض العقول الإلكترونية والتقدم التكنولوجي، قلت حتى ولو كان شاعرا وأنا لاأنفي الشاعرية عن كل البشر بدون استثناء. لكل اتجاه تبرير ولكل مدرسة أصول ولكل مذهب قواعد،، الشعر تدرج من سفوح المجتمع إلى أهراماته متخذا في كل خانة تنظيرا واحتواء لمفهوم الشعر من المتصوفة والفقهاء إلى العبثيين والعدميين والعقلاء فالعقلاء جدا فالصعاليك وهكذا ،،الشعر ملكوت يدعيه التقدميون يدعيه الرجعيون ، كل الناس تقول الشعر باعتباره السلعة التي تحل محل السحر والخوارق ، والناس أعداء وأسرى ما جهلوا أو ما ضاع منهم،، لذلك يتأوه قيس فيصفق الناس للشعر أو يتأبط الشر شرا فيصفق الناس للشعر ، وإنني أدافع عن الشعر عندما أهاجمه وأهاجم سدنته وبيادقه ،كل أصناف المعرفة توجت نفسها بلقب العلم ، علم كذا وعلم كذا ،إلا الشعر تتنازل حتى عن اسمه وجوهره ليصبح مرة مقالا ومرة مقامة ومرة قصة ومرة حوارا ومرة خلطة مختبرية للأحلام ، مرة نهشا جميلا للواقع وقضايا الواقع وفي أقصى الحالات ما كان الشعر إلا دليلا على علم مضاف إلى كل العلوم يدعي الريادة على كل العلوم باعتباره العلم الجديد، خلاص البشرية ، علم الجهل ، علم الجهلاء أولئك المنبوذون فاقدو كل الملكات إلا الثرثرة الفارغة وترصيف  الكلام ،أو، مالكو كل الملكات يمسخونها وفقا لما شاءته الضوابط والبنود المجلوبة من شكليات الجاهلية -   وللجاهلية فضل   اكتشاف ما يلائمها -،أو المستعارة من مجالس العباسيين وموشحات الأندلس.

      أتساءل كيف يعيش الشعر منذ الجاهلية ، أقصد منذ ما قبل عصور الجاهلية لايخضع لقوانين التجديد والتطور ؟؟ يقولون الحداثة ويستعرضون أسماء وأسماء  الحداثيين كل من منظوره وتشخيصه ولا ندري هل الحداثة في تنكب قيود الجاهلية  والتقعيد الفراهيدي أم التقيد الأرثذكسي بها ، هل في الهلوسة والإنزياح عن المألوف أم في التقرير والمباشرة ، لاندري أعلينا أن نحلم ونعود للأسطورة أم نغوص في الأرض ونلهث وراء الواقع ونسبق المستقبل أم نمزج كل المستحضرات في تركيبة ووفق كيمياء لا يعلم بعض أسرارها إلا من أوتوا بسطة في علم الشعوذة وانخرطوا في زمرة يجيز بعضها بعضا ولايعرف أحد منها عن الآخر إلا :أحقا أنا مثقف ؟إذن أنت مثقف .أأنا شاعر ؟ إذن أنت شاعر ..علم من أعلام علم الجهل وأكبر الإثبات أن يكون من شعرائنا شعراء هم أكثر الناس فرحا بجهلهم والتعبير البليغ عن جهلهم ، ليس للواقع فحسب بل للشعر أيضا .

                                ( ذات يوم من القرن الماضي)