مغربة الأغنية المغربية .. كيف ؟
رابح التيجاني
قيل عن الموسيقى إنها واحدة من بين مائة فن من فنون السحر والفتنة كان على الشيطان أن يكشف سرها للبشر تقربا منهم وتوددا، وهذا القيل استهجان ما في ذلك شك ،وتطير من قرع الطبل وصفير المزمار ، ولست أورده إلا للتدليل على ما للموسيقى من قوة في تهييج الوجدان والإثارة والغواية ثم ما لها من أثر في خلخلة الجوانيات ورأب تصدعات النفس وتمزقاتها التماسا للسكينة والراحة والإنتشاء ،ولا جدال في أن بناء أو هدما بهذه الجسامة يتطلب شيطنة وعبقرية وذكاء وروحا إبداعية مدركة لخفايا توظيف لغة متميزة في التعبير والتأثير، لغة لا تعتمد غير تصاعد أو تنازل الصوت عبر محطات سبع في خضوع للايقاع أو الإسترسال ، للقوة أو الضعف ،للانضباط أو الموال ، للهمس أو الحدة أو الإنفعال ،لتعبئة الزمن بالنغم أو الصمت ،، لغة تعانق التجريد ، تحاكي بالنقرة والدندنة حركات النفس وشحنات القيم ومظاهر الكون وتحاول أن تكون لغة فوق اللغة ، أكثر إحاطة وسبرا للوعي ولا وعي الكائن من الكلمات أو الرسم أو الرقص أو الرياضة وغيرها من الفنون ووسائل التبليغ .
كذلك هي الموسيقى في شموليتها ومعناها العام ، ولكن الإهتمامات تكاد تنحصر أو تكاد في الأغنية ،ومن الممكن أن لا نفرض فوارق بين الموسيقى عامة والأغنية خاصة ، لو كان استغلال الصوت الإنساني باعتباره آلة معبرة تضاف أو تتصدر ما اكتشفه الإنسان من آلات موسيقية مصاحبة أو مكملة ، ولكن استغلال الصوت مع الأسف لا يتعدى الإلتجاء إلى فن آخر غير الموسيقى هو الشعر وأداء الكلام ،لإضفاء المعنى على الموسيقى المجردة أو مزج وربط المقاطع الموسيقية المجردة بكلام له معنى ، ومع الأسف ثانية إذ يكون الكلام المغنى لا ارتباط له في مضمونه بإيحاءات الموسيقى المعزوفة وإيقاعاتها ومقاماتها .
وإن الحديث عن الأغنية بدلا من الموسيقى إذن، هو انتقاص من قدر وقيمة الأغنية ، ومع ذلك فالحديث عن الأغنية ذاتها في المغرب هو حديث ذو شجون لا يصل بنا لا إلى أصول متجذرة ولا إلى حاضر واضح المعالم أو آفاق واعدة ، فالرجوع إلى جذور الأغنية المغربية لن يتدرج بنا عبر مراحل متطورة لأننا لا نتوفر على رصيد تاريخي محفوظ يساعد على تتبع سيرورة الأغنية في مسار محدد وانطلاقها إلى الآن، ولا تسعفنا ذاكرة الجيل الحاضر أو السابق في التعرف على العمر الحقيقي للفن الغنائي بالمغرب ، وهي في عمومها تتوزع بين حماة التراث ومتعاطفين مع الإرهاصات الشعبية في المجالس والأعراس والحلقات ،إلا أن هذه الإسعافات لا تصل بنا إلى غير الإنشاد ، وليس إلى الأغنية ،فالإنشاد ، ونقضا لما سلف من حديث عن شيطانية الموسيقى ، ترعرع في أحضان الدين ،تجويد القرءان وترتيله ، وإنشاد البردة والهمزية والأذكار والأوراد وفق مقامات الحجاز وتنويعاته غالبا وباقي المقامات ، وإيقاعات "البلدي" و "الحضاري "، ثم في أحضان الطوائف الطرقية التصوفية من عيساوية إلى حمدوشية وهداوية ودرقاوية وجيلالية وتهامية وتواتية وكناوية وعداها ، وهي تتوزع في مقاماتها بين " الرست "و "الجهاركاه " و"الحجاز "و "البياتي " و"السلم الخماسي " وفي إيقاعاتها بين إيقاعات الحضرة والإيقاعات الصحراوية ، وهي بناءات موسيقية تتوسل التكرار والترديد لقوالب نغمية وإيقاعية وتهتم بالكلام أصلا .
وبعد ذلك ومن خلاله ،لاغرو أننا مدعوون إلى تحديد مكانة ومدى تأثير أنماط غنائية كالطرب الأندلسي الذي حافظ على نوباته وميازينه الموريسكيون ونقلوه أساسا لشمال إفريقيا واهتمت أسر شهيرة بصيانته وتعهده ،والطرب الملحون المنتعش في أوساط الحرفيين والطبقات الشعبية البسيطة والمتوسطة وداخل شرائح من المثقفين،وليس بخاف مدى غنى وعظمة هذين المكونين التراثيين ، وفي نفس الآن فإن رهبة التجديد في الموسيقى الأندلسية يجعلها دائما في خانة التراث المرتبط بالماضي ولذلك وجدنا من ينحو لتحديث هذه الموسيقى وتطويرها وانفتاحها على المستجدات الموسيقية من آلات وأساليب وتقنيات التوزيع والهارموني ، ولكن تقل المبادرات لإنجاز وإبداع ألحان جديدة وفق النمط الأندلسي باستثناء مبادرات لأقطاب كعبد الوهاب أكومي وعواطف والرايسي ، كما أن الملحون باقتصاره وتركيزه على الإنشاد للقصائد، حصر دائرة التطور في هذا الإتجاه ،في الشعر أكثر من الموسيقى ، علما بأن القوالب اللحنية في الملحون معلومة والقياسات كذلك والميازن والصروف محددةوبالتالي فإن هذا النمط يمثل بنية مكتملة نادرا ما يسعى رواد هذا الفن لتخطيها تقديسا للتراث ،وما يدعو إلى الدهشة عدم استيعاب الملحنين الجدد المهتمين بالموسيقى المغربية إلى هذه الجذور الأصيلة أو عدم قدرتهم على بلورتها في أعمال غير اجترارية فقط ،بل ممثلة لها ومتجاوزة أيضا ، محاذية للعصر وللمؤثرات الأخرى التي تشكل الوجدان المغربي ،يجعل من هذا الرصيد في حالة إقحامه دون استيعاب له ،غير مؤثر في تطور الأغنية التطور المنشود .
وفي نفس السياق فإن ما يسمى بالفلكلور أو الإبداع الشعبي وهو مصطلح ينسحب على طرب مناطق مختلفة من الشمال إلى الجنوب ، ويتميز بثراء واضح ، ظل متروكا للإعادة بدل الإفادة والإستثمار لصنع الأغنية التي تستحق صفة المغربية حقا ،أين الطرب الجبلي وأين تجلي العيطات وأهازيج الحوز، أين بصمات أناشيد الروايس ،أين إيقاعات الصحراء.
إن أغنيتنا بقدر مالها من إمكانيات الإغتراف من روافد تراثية وفلكلورية غنية ، تعاني حقيقة من مشكل القدرة على بلورة الصيغ المجسدة لغنى واضح ،إذ أنها أمام تنوع بالإمكان صهره ولكنه ظل إلى الآن شتاتا، لسبب واحد هو العجز عن تمثيله وتوظيفه في الأغنية التي يراد لها أن تشيع وأن تسمى بالأغنية المغربية ، أو لسبب آخر هو الإنحياز أثناء الإبداع لنموذج أو اتجاه أو نمط معين ، محلي أو شرقي أو غربي .
إن الأغنية المفروضة على أسماعنا ، هي أغنية لا تجد صدى لها إلا بالمدن ، وببعض المدن فقط ، وداخل فئات معينة ، ولذلك يجوز لنا أن نسميها بالأغنية المدينية أو الأغنية المدائنية، وخارج هذا الإطار لن نجد إلا تذوقا للطرب المحلي أو التراث ،وجهلا مطلقا أو نسبيا بالمطربين والملحنين الذين تلهج الإذاعة ليل نهار بترديد أسمائهم، لذلك فالحديث عن الأغنية المغربية مجازفة ومبالغة لن يمررها واقع الدعاية ، إننا على سبيل المثال في عين اللوح وفي خنيفرة لا نعرف غير الرويشة ، وبالرشيدية لا نعرف غير باعوت ، وبالشمال نسمع الكرفطي والعروسي وبسوس الحاج بلعيد وبأسفي فاطنة بنت الحسين وبتيداس وولماس نسمع عتابو، ،، ولكن بلخياط والدكالي وعزيزة وسميرة ونعيمة وباقي الأسماء لا تروج الرواج الشامل في كل مكان بأرجاء الوطن ، وتظل أحيانا معروفة في أوساط محدودة ، وفوق ذلك فلمجالس اللهو والغناء مطربوها الذين يستلهمون غناءهم من تراث أجنبي أو غربي عامة يقتحمها الفلكلور للفرجة ،والسبب في ذلك أن الأغنية العصرية لم تتشكل بعد بالمواصفات القمينة بها ، وأنها لم تستطع إثبات وجودها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وداخل كل الفئات والأجيال، لأنها تابعة ومستلبة ودائخة في تحديد مصادر تكوينها ولم يتأت لها أن تتبلور على يد ملحنين مهرة يمنحونها مواصفاتها وسماتها الجديرة بها باجتهادهم وبحثهم واغترافهم من رصيدهم الحضاري الفني وبعدهم عن الإنجاز السريع ،غير أن الحكم لا يكتسي صبغة الشمولية فنحن واجدون أسماء كبيرة قدمت روائع جميلة ومؤهلة لتقديم المزيد في نطاق تصور رحب لأغنية ناجحة تكتسح الآفاق.
ما هي المصادر التي يمكنها أن تشكل قوام الأغنية العصرية ،أهي التراث أم الشرق أم الغرب أم الذات ؟ نعتذر لأقطاب كمحمد فويتح وابراهيم العلمي وعبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام وعبد القادر الراشدي الذين تختزن محاولاتهم جملا موسيقية تراكيبها مغربية صميمة ، ولكنها تبقى شذرات لا ترقى في كلياتها إلى السيطرة على وجدان المغربي حيثما وجد ،إن هذه الأغاني ممتازة ولكنها في حاجة إلى أن تنهل أكثر من الينابيع الصافية العديدة والمشارب الشافية التي يرتاح لها المستمع أيا كانت الشرائح والفئات التي ينتمي إليها ، نريد أغنية مسموعة ومحبوبة وذات شيوع أكبر ولن يتأتى ذلك بدون تقدير مختلف الأذواق وبدون الإستئناس الذكي بالعناصر المكونة للذائقة المغربية ،إننا لا يمكن أن نتصور أن لأصحاب الطاكسيات مطربيهم وحدهم وإن للحرفيين مطربيم وحدهم أيضا وللمثقفين أغنيتهم وهكذا ،وإن العائق ليس في اختيار الإيقاع والمقام – ولا نتحدث عن المضمون وأهميته الآن ،- ولكن في استخدام الإيقاع والمقام للتعبير بأسلوبية مغربية ، ونتساءل عن ماهية هذه الأسلوبية ونحتار حقا إذ نجد أن ما يعتمل بالأرض المغربية من تلاوين الأجناس الموسيقية غزير وكثير ، فمن صوفية آسيا تقبلنا الربع مسافة ومقامات غارقة في الروحانية ، ولا أقول الحزن،كالصبا والنوى أثر والشاهناز والجهاركاه والنكريز والسوزناك والسوزديل وفرحفزا والحجازكار والحجاز كورد والهزام وشدعربان وراحة الأرواح وغيرها ، ونقلنا من إفريقيا إيقاعاتها وسلمها الخماسي الذي يوجد بمناطق أخرى ،وتعاملنا مع مقامات الغرب الماجور والمينور ، وتشبعنا بتراثنا بنوباته وفلكلورنا المشبع بالمقامات بأبعاد مسافاتها العادية والتويعات والإيقاعات البسيطة والمركبة ، ولكننا أمام هذا الكم الهائل وخاصة التراث التراكمي الإنشادي والفلكلوري لسنا نصل إلى فرض أغنية نستطيع أن نقول إنها تختزل أنماطنا الغنائية ، لأننا نعدم لحد الآن ، رغم وجود قدرات فنية هائلة إمكانية صهر كل هذه المقومات في أعمال استقطابية لكل مكونات الشخصية المغربية ، ولذلك نحن مانزال نعاني الفئوية والطبقية حتى في التعامل مع الموسيقى ،أرستقراطيون لهم موسيقى الأندلس والسمفونيات ، بورجوازيون لهم أغاني المدن وموجات الغرب والشرق ،شيوخ وحرفيون لهم الملحون والتراث ،شعبيون لهم الفلكلور والأغنية الشعبية .
ولقد استطاعت الأجيال حقا في سياق تاريخي أمثال ناس الغيوان وجيل جيلالة أن تحرق الفواصل بين بعض المراحل فاقتبست الإيقاع والكلام من التراث وقدمت روائع جميلة لكنها اختصرت الباقي في التمظهر الشعبي واقتصرت على ذلك ولم تستطع ولوج مجال الموسيقى أو على الأقل مجال إنجاز أغنية مغربية بالمواصفات المشروط توافرها لتحقيق الأغنية ،وهي بدون شك تتعدى الكلام والميلوديا واللحن والأداء إلى إيلاء الموسيقى معبرة ومتناغمة وموزعة توزيعا أوركيستراليا متناسبا فيما بين ما هو معزوف وما هو موقع ومنطوق ، مكانها وقيمتها .
وقد نتساءل في مضمار هذا الخضم من المعطيات ، ماذا على الملحن أن يختار ليبدع لحنا مغربيا ، أعتقد أن لا اختيار في الطرح مادام تكويننا خلاصة كل هذه المعطيات ، إننا لن نرفض صوفية المقامات الشرقية ونستعيض عنها بالزيدان والكباحي وتسميات مغربية لمقامات قريبة أو تختلف اختلافا بسيطا عنها لأنها حقا تحمل شحنات تعبيرية عميقة ، ونحن ننفعل بها وربما قد نكون ساهمنا في إثرائها ، لن نرفضها بسبب ربع المسافة لأن هذا الربع وربما ثمن المسافة ، ميزة تفتقر إليها موسيقى الغرب – رغم عالميتها –حيث لا تجد في أقصى حالات حالاتها الدرامية والمأساوية للتعبير عن الحزن سوى مقام واحد هو المينور ،أما الربع مسافة في كثير من المقامات الشرقية فهو مجال رحب للتجلي الروحي ، وأفضل الأمثلة المعزوفات الهندية والتركية وكثير من ألحان رياض السنباطي التي تميزت بمنتهى الجلال والفخامة خاصة في توظيف مقام الرصد بمشتقاته والحجاز والصبا والشاهناز،إن انصراف أغانينا إلى المعين الشرقي أمر لا محيد عنه وهو يؤكد هويتنا ومتمثل في تراثنا الصوفي ،ولأن تطور هذه المقامات الشرقية تم في أتون الإنصهار بالمعاناة الروحية وبالتالي فهو معبر عن خلجات عميقة وأصيلة فينا ،ولا يمكن تصور نشاز بعضها إطلاقا كما يعتبر الغرب ذلك في حكمه على الربع مسافة ، وإنما بالقدرة على الإقناع بجماليلتها وقدراتها التعبيرية .
أما الإلتجاء للمعين الغربي فنحن مشدودون إليه بحكم المعاصرة وخاصة للوصول إلى ما راكمه من تقنيات عظيمة وما حققه من إبداعات في مجال البناء الموسيقي والتراكيب الملحمية في السمفونيات والأعمال الأوبرالية وحتى موسيقى البوب ،،ثم استغلاله الجيد للإيقاعات الإفريقية ولوجا لرحاب موسيقى الرقص والتفريغ وتأطيره لكل ذلك في سياق أسلوبية سيكولوجية استقطابية لهموم المجتمعات الإستهلاكية والمتخمة حضاريا .
وبالنسبة للتراث فهل نملك غير الرغبة الحسنة في فرض سيادته بترديده ، وكيف يتسنى لنا ذلك لاسيما وهو لا يفتقر إلى عناصر نغمية وإيقاعية ،وعن فولكلورنا فأمر صهره في إطار إبداعات وطنية لا تقتصر على الإقتطاف ، أمر متروك لمبدعينا الذين لا ينقصهم غير تنكب المسايرة لمنطق الإستعجال والتعامل التجاري والإعلامي للتفرغ للبحث والإبداع الحقيقي المعبر عنهم وعن وجدانهم ووجدان كل الشعب وليس عن شرائح محدودة تستهلك الطرب الأندلسي كما تستهلك طرب الشيخات وطرب الملحون وسمفونيات بتهوفن وتقاسيم شنكار والروك آند رول ومجرد عيساوة وأغاني بلخياط وسامي المغربي دون تمييز ودون تذوق أو تعاطف أو تفاعل .
إن الوصول إلى الأغنية المغربية رهان تاريخي ويستوجب اجتهادا واعيا ،نحن لا نعدم أطرا موسيقية مقتدرة ، لكنها في إبداعاتها تصرف قدراتها لخدمة وإشاعة اتجاه لحد تشييعه ،إن من يعتقد أن الأغنية المغربية هي في الربط بأنماط كلا سيكية لن يفرضوا انتاجهم رغم خضوعه لضوابط علمية ، وإن من يظن بأن الأغنية المغربية هي الحضرة والجدبة لن يحقق الشعبية المطلوبة رغم نجاح بعض الأعمال في هذا السياق ،وإن من يرى الأغنية المغربية ترويجا لألحان المشارقة لن يحققوا مغربية الأغنية ،كما أن من يندرجون في نطاق الفلكلور وهم كثيرون لن ينالوا القبول إلا من فئات محدودوة ، وكذلك فبعض التجارب لا تقدم إلا نماذج قريبة من الإنشاد وقراءة الشعر وفصل فقراته بمقاطع موسيقية رغم جودتها من ناحية البناء الموسيقي لا تتجاوز مستوى القراءة الإيقاغية المنغومة أي لا تتجاوز حدود الإنشاد المشبع بقليل من الموسيقى ، وعلى هامش كل ذلك فالمواهب الصاعدة في التلحين لايمكنها بسط انتاجها في غير بعض الحواضر وداخل نطاق محدود رغم تكريس وتزكية الإذاعة لأن في ألحانهم يراعون سوقا محدودة، وربما جاز لنا أن نستثني بعض المحاولات المعانقة لألحان تعبيرية تراعي تصوير الكلمات موسيقيا ، وربما قد تدرك هذه التجارب نجاحات في الوصول إلى تحقيق الإنسجام بين الكلام والموسيقى ،وبالتالي إلى تجاوز الإنفصام الحالي الذي يتلبس معظم الأغاني المغناة ، وأكيد أن تجوز هذا الإنفصام ليس كافيا ، أن المطلوب ليس إنتاج موسيقى ملائمة لمضامين الكلمات وإنما المطلوب التعبير وعكس الوجدان المغربي كلمة ولحنا وأداء ، ثم استغلال كل تقنيات علم الموسيقى من هارموني وعزف وتوزيع أوركسترالي مع الأخذ بخصوصيات تراثنا وأنماط غنائنا الجهوية والطرقية والشعبية ، ليس على مستوى الإقحام وإنما التمثل ،وليس من داع إلى الجنوح إلى الشدة في إصدار هذه الأحكام إلإ اليقين بأن أغنيتنا مؤهلة لأن تكتسح السوق العربية وليس المغربية فقط لما يتوفر لها من أسباب النجاح .
إن الأغنية المغربية تعيش معضلة تتلخص في التأرجح بين التبعية وإثبات الذات ،، إننا لا نعدم المقومات ولدينا إرث حضاري وليد المثاقفة والتفاعل ولدينا خصوصيات متميزة وغنية لا تحتاج إلا إلى عبقريات موسيقية قادرة ليس على الذكاء في استعمال المقامات الشرقية أو قادرة على الإنفتاح على على علمية الموسيقى أو قادرة على تجسيد نماذج من التراث الشعبي وتقليدها ، وإنما قادرة على الإحاطة بكل العناصر والشتات الموسيقي الذي تحبل به الساحة المغربية ،وأكيد أن لبحث المبدعين وإسهام وسائل الإعلام في تقريب الشقة والمسافة بين الأنماط المختلفة بطرح النماذج الموجودة دون حيف ، دور في الوصول إلى خلق ذوق عام لنمط معين أو نموذج يكون بديلا شاملا لكل الثراء والتنوع في مجال الغناء .
إنني أجد العذر للمعجبين بالأغنية السطحية الرديئة حسب حكمنا،هي أغان ممجوجة من طرف فئات تتظاهر بالذوق الرفيع ، ولكن ذوقها لا يختلف عن مجرد مثال تكديس جاهل للمجلدات وأسطوانات موزارت وبيتهوفن وشتراوس وهايدن ومعزوفات منير بشير وسلمان شكر للديكور والتظاهر فقط ، هذه الأغاني التي نسميها أحيانا شعبية رغم فقرها لمقومات الموسيقى تتميز بالصدق على الأقل ،فماذا فعلت الصفوة لتحقيق هذا الصدق على مستوى إبداعي رفيع ؟إنهم يحتقرون إنتاج البسطاء فإذا فرض الإنتاج مكانته على مستوى معين حتى بالملاهي جاؤوا لينقلوا منه جملة يضمنونها أغنية لهم تستلهم الشرق والغرب ، ولا تعبر عن شرق أو غرب أو مغرب ، تظل خليطا ممجوجا يختفي بعد إذاعته بمقبرة الأسطوانات ،أو يذاع دون أن يلتفت إليه أحد ،في حين تبقى أغان رغم بساطتها أنتجها مبدعون أوائل الإستقلال حاضرة وذات توهج ، وقد نجد تفسيرا لحنين الكثير إلى أغنية الخمسينيات والستينيات إذ هي جزء من الذكريات ، والإنسان بطبعه مرتبط بذكرياته لأنها منه ، واندراجها في الماضي هاجس حاضر إلى الأبد يبعث التساؤل الخالد على كل إنسان حول معنائية الحياة وبالتالي التشيث تشبث الغريق بكل لمحة وكل صورة هاربة ، ولكننا مع ذلك هل نعتقد أن أغنية السبعينيات والثمانينيات ستجد من يتلهف شوقا لسماعها في القرن المقبل ؟إن أغنية الماضي كانت على الأقل تحمل تلك المسحة الصادقة من الرومانسية والحزن المتولد عن ظروف الحرب العالمية والإستعمار ، أما أغنية السبعينيات والثمانينيات فلا ملامح لها غير التجريب المعاد والتوزع والضياع في الإختيار .
نستخلص مما سلف أن الأغنية في المغرب لا تزال في مرحلة المخاض ،وأن التجارب الشائعة ليست إلا إرهاصا وبواكير لم تستطع بعد أن تلملم كافة الشتات الذي بتجميعه وصهره فقط نستطيع الوصول إلى أغنية مغربية يحق أن تسمى كذلك دون تشكيك في تبعيتها للمشرق أو الغرب أو خضوعها للأصول التراثية أو الفلكلورية أو مسايرتها للإنتاجات البسيطة على مستوى متطلبات السوق والإستهلاك العابر .
إن الأغنية المغربية لا تزال في مفترق الطرق ، والملحنون يدركون هذا لا شك ، وتوزعهم في الإختيار والمنطلقات دليل على ذلك ، إننا نلمس حيرة في اتجاهات الملحنين ،فهم تارة يستلهمون إنشاد عيساوة وجيلالة وهم تارة يغلفون إبداعهم بإيقاع صحراوي أو جبلي أو نغم كناوي ، وهم يستندون إلى الموشحات حينا وإلى الأندلسي وإلى الملحون وهم يجترون الدقة والطقطوقة ،وهم أيضا ينحتون مقاماتهم من المقامات الشرقية الشهيرة ، ولكن المأساة أنهم عبر هذه الإتجاهات يضيعون في المتاهات غالبا، فيأتي الملحن منهم بمقطع "صبا "وهو مقام حزين ،غلافا لكلام في منتهى الفرح ، ويؤطر آخر كلاما ماجنا عبر إيقاعات ومقامات ترعرعت في ظل الطوائف المتصوفة ، ويمزج ثالث مقامات متنافرة في سياق واحد ، ويورد رابع تنويعات لا هدف من إبرادها إلا إظهار المهارة ، علما بأن مزج المقامات والتنويع فيها والتلوين فلسفة تعبير ولغة راقية تتوازى مع الموسيقى التصويرية ودلالات السمفونيات التي تحكي ملاحم وروايات ،فلا يكون تدخل آلة إلا للايحاء بشيء ما ، ولا يكون تمازج آلالات أيضا إلا لذلك ، كما لا يكون تغيير المقام إلا لدواعي تعبيرية ، أما لدينا ، فإن الجوق بكامله يؤدي ما يؤديه عازف واحد ، وانفراد آلة بالعزف لا يأتي لتقديم "صولو "معبر أو لتبيان قدرة هذه الآلة في تجسيد فكرة أو صورة أو معنى أو إيحاء ، وإنما مجرد محاولة لتحطيم روتينية العزف الجماعي الممل ، وهذا يعني انتفاء فن التوزيع الأركسترالي لدينا واعتبار وجود جوق أثناء إنجاز الألحان ،ويعني أكثر أننا لم ندرك بعد أهمية تناغم الأصوات والألحان التركيبية والهارمونية .
أما استخدام الإيقاعات والمقامات فعمل لا يحظى بالعناية إلا من طرف قلة من الملحنين نخص بالذكر منهم عبد السلام عامر وعبد القادر الراشدي وعبد الرحيم السقاط ومحمد بنعبد السلام وابراهيم العلمي، الشرايبي ، الإدريسي..، واستخدام هذه المقدرات أصلا ليس ميسورا لكل مدرك لأبعادها ،لأن هذه المقدرات ليست مجرد قوالب تستوعب كل تفريغ ، إنما هي مجالات تتطلب تتطلب كثيرا من الجهد في توظيفها حسب الحالات ،رقة أو حدة ، همسا أو غضبا ،بطئا أو سرعة ، فرحا أو حزنا ، انشراحا أو اكتئابا ، ثم إن المغنين يسيرون بطبيعة الحال وفق المرسوم من الألحان ويزيدون الطين بلة إذ لا يفهم الكثير منهم أن الصوت لا يعني مجرد توفر طبقات حادة أو صادحة أو قرارية ، وأنه ليس القوة فقط والصراخ فقط والبكاء فقط ، وإنما هو القدرة على التعبير بكل هذه الطاقات همسا وحدة ،خفوتا وانطلاقا ، درامية واستبشارا تبعا لمميزات اللحن .
إننا إزاء الكم الهائل من الأصوات لا نستطيع إلا أن نقول إن هذا الصوت جميل أو مقبول ، أما مواطن الجمال فهي ضائعة ، لم نتبينها في خضم الخليط من الأداءات الكرنفالية ،هل نملك أن نقول إن لنا أصواتا أوبرالية أو سوبرانو أو طينور أو باريطون ،إن لنا أصواتا ولكنها ضائعة في لجة الأداء الفج ،حيث أن أصواتا ما يجب أن تتميز مثلا في أداء أغاني معينة وليس أي لحن وارد فهناك أصوات هامسة(ماجدة) وأخرى تطريبية(سميرة) وأخرى قوية (بلخياط)وهكذا ، ولكن واقع الحال يفرز إنتاجات لا ضابط لها إلا الرغبة في الظهور كيفما كان هذا الإنتاج ،ولا معيار يحكم تقديم الإنتاج إلا مراعاة شهرة الملحن والمغني ولا أقول المطرب ، إذ من المغنين لا نعثر إلا على قلة تستطيع أن تطرب ، وبمعنى آخر تملك أن تبدع بصوتها وملكاتها داخل إطار اللحن المرسوم ،فالغالبية تستظهر الأغنية كدرس مدرسي ،وبمجرد محاولة الإبداع تسقط إما لمحدودية الصوت أو عدم ضبط الإيقاع أو الخروج عن المقام أو عدم القدرة على التحليق والإبتكار ، وهذا راجع في أحيان كثيرة لضعف التكوين الموسيقي والمقدرة الفنية أو تهيب الإرتجال ، ولا تفوت الإشارة إلى عدم الإدراك للفارق بين أداء الصوت المفرد وأداء الكورال أو المجموعة الصوتية حسب الحالات ، بحيث لا يظل اعتبار المجموعة الصوتية مجرد وسيلة لترديد اللازمة.
أما بالنسبة للشعر ومضمون الأغنية ،فمن المسلم به أن اختيار الكلام الهادف ، ولا نستثني شعر الحب ضرورة تساعد على الرفع من مستوى الأغنية المغربية ، وإن المطلوب ليس هجر الكلام عن الحب وإنما الإرتفاع عن الإبتذال ، لأن الحب قيمة إنسانية خالدة ، مع السعي لتناول قيم وهموم المجتمع والناس وأفراحهم ، والوصول لمعانقة القضايا بسيطة وعميقة ، بأساليب غير معقدة ومنفرة ،وأكيد أن للشعر أيضا ،فصيحا ودارجا ، معضلاته التي على الشعراء والزجالين أن يسهموا في تجاوزها خلقا لكلمات أغان في المستوى المأمول ، بقيت مسألة التسجيل ، وأعتقد أن تقنياتها لا تتطلب غير الدعم المادي لإحداث استديوهات كبرى وتكوين المزيد من التقنيين الأكفاء ، خاصة وأن كثيرا من التجارب الموسيقية لا يمكن أن تتجلى روعتها في التوزيع والهارموني والغناء والعزف إذا كان التسجيل غير جيد .
وختاما فإن البحث عن حضور قوي للأغنية المغربية لايعني مطلقا غياب هذه الأغنية ، فنحن نطرب لأغانينا قديمة وحديثة ،ولأصناف تراثنا وغنائنا ، ولكننا نريد للأغنية أن تكون في توجهاتها أكثر إنسانية واهتماما بالإنسان عبرمختلف مواقفه وحالاته ومسيرة حياته ، وبالتالي أن تدرك ما على عاتقها من وظائف اجتماعية وسيكولوجية وعلى مختلف الأصعدة ، وأن تكون بديلا شاملا لكل الشتات المتناثر ومجالا لتجلي ثراء وغنى فلكلورنا وغنائنا الشعبي وتراثنا ن ومرآة تعكس حقيقة قدرة الذوق المغربي على احتضان أنماط عديدة وأشكال متنوعة ، والإنفتاح على تجارب كثيرة ، واستطاعة التعبير عن ذاته بشمول وإبداع تعبيرا يحفظ الأصالة ويحقق المعاصرة والغايات المنشودة التي لا تنحصر في الترويح أو البكاء. &nbs`;
رابح التيجاني
مقال نشر بالملحق الثقافي للعلم قبل أزيد من عقدين ،ارتأيت نشره منقحا ، وأسجل أن كثيرا من الإشارات الواردة تم تجاوزها بحكم الطفرة التي عرفها مسار الأغنية المغربية والموصولة بكثير من العزم لإحلال هذه الأغنية ما هي جديرة به من مكانة وشيوع بالنظر إلى مميزاتها ومؤهلاتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق