الجمعة، 15 يوليو 2011

دون كيشوت أديبا .. رابح التيجاني


دون كيشوت أديبا

                                 رابح التيجاني

     لا أعتقد أن جغرافية الشعر سهول مستوية فقط ، حتى ولو كان الشعراء وقراؤهم لا يستلذون من الشعر إلا انبساطاته المترامية أوزانا وقوافيا، ولا أعتقد أن الشعر غابة غير مضبوطة الممرات أو أنه أقبية فوضوية السراديب والمتاهات ، لا أعتقد أن الشعر جماليات مشاعر وأفكار، ربما قد كان ذلك ، كل ذلك ، غير أن شعر اليوم لا بد أن يكون شيئا آخر ، تجاوزا كما كان الشعر أبدا ، رؤية ورؤيا تتجسد شكلا داخل لبوس عصر تخطى ميزان الذهب وميزان الفحم وآلات التصوير البيانية والبديعية...ونحن تلاميذ في المدرسة قبلنا الشعر تاريخا..وها نحن أمام فظاعة اليوم وتقدم اليوم نقف مشدوهين نضحك من هذا الشعر، عاهة إنسانية ، مرضا مستلطفا محبوبا ،نزقا وخربشات طفولية بدائية تتمسك بالأوجاع والتأوهات والجماليات المعبرة عن ما هو جميل وعن القبح الشنيع والأزمات والإنكسار . نضحك .. ومن منا لم يضحك ساخرا من شعر اليوم والأمس أيضا ؟ من منا لم يستخف بالشعر حتى ولو كان شاعرا ؟

       لكم شعرنا بالدونية عندما كنا مصنفين بقاعة الدرس في إطار أدبي وكم حاولنا إقناع أنفسنا والآخرين إذا قالوا مثلا شعبيا أو صدر عنهم دون شعور تعبير جميل مضبوط أن ما قيل    إبداع رائع وشعر بديع موهمين أننا بشعرنا لسنا أقل علما من أتباع العلم . 

       مفلسة هذه البضاعة، مضيعة للفكر ومفسدة في أرض العقول الإلكترونية والتقدم التكنولوجي، قلت حتى ولو كان شاعرا وأنا لاأنفي الشاعرية عن كل البشر بدون استثناء. لكل اتجاه تبرير ولكل مدرسة أصول ولكل مذهب قواعد،، الشعر تدرج من سفوح المجتمع إلى أهراماته متخذا في كل خانة تنظيرا واحتواء لمفهوم الشعر من المتصوفة والفقهاء إلى العبثيين والعدميين والعقلاء فالعقلاء جدا فالصعاليك وهكذا ،،الشعر ملكوت يدعيه التقدميون يدعيه الرجعيون ، كل الناس تقول الشعر باعتباره السلعة التي تحل محل السحر والخوارق ، والناس أعداء وأسرى ما جهلوا أو ما ضاع منهم،، لذلك يتأوه قيس فيصفق الناس للشعر أو يتأبط الشر شرا فيصفق الناس للشعر ، وإنني أدافع عن الشعر عندما أهاجمه وأهاجم سدنته وبيادقه ،كل أصناف المعرفة توجت نفسها بلقب العلم ، علم كذا وعلم كذا ،إلا الشعر تتنازل حتى عن اسمه وجوهره ليصبح مرة مقالا ومرة مقامة ومرة قصة ومرة حوارا ومرة خلطة مختبرية للأحلام ، مرة نهشا جميلا للواقع وقضايا الواقع وفي أقصى الحالات ما كان الشعر إلا دليلا على علم مضاف إلى كل العلوم يدعي الريادة على كل العلوم باعتباره العلم الجديد، خلاص البشرية ، علم الجهل ، علم الجهلاء أولئك المنبوذون فاقدو كل الملكات إلا الثرثرة الفارغة وترصيف  الكلام ،أو، مالكو كل الملكات يمسخونها وفقا لما شاءته الضوابط والبنود المجلوبة من شكليات الجاهلية -   وللجاهلية فضل   اكتشاف ما يلائمها -،أو المستعارة من مجالس العباسيين وموشحات الأندلس.

      أتساءل كيف يعيش الشعر منذ الجاهلية ، أقصد منذ ما قبل عصور الجاهلية لايخضع لقوانين التجديد والتطور ؟؟ يقولون الحداثة ويستعرضون أسماء وأسماء  الحداثيين كل من منظوره وتشخيصه ولا ندري هل الحداثة في تنكب قيود الجاهلية  والتقعيد الفراهيدي أم التقيد الأرثذكسي بها ، هل في الهلوسة والإنزياح عن المألوف أم في التقرير والمباشرة ، لاندري أعلينا أن نحلم ونعود للأسطورة أم نغوص في الأرض ونلهث وراء الواقع ونسبق المستقبل أم نمزج كل المستحضرات في تركيبة ووفق كيمياء لا يعلم بعض أسرارها إلا من أوتوا بسطة في علم الشعوذة وانخرطوا في زمرة يجيز بعضها بعضا ولايعرف أحد منها عن الآخر إلا :أحقا أنا مثقف ؟إذن أنت مثقف .أأنا شاعر ؟ إذن أنت شاعر ..علم من أعلام علم الجهل وأكبر الإثبات أن يكون من شعرائنا شعراء هم أكثر الناس فرحا بجهلهم والتعبير البليغ عن جهلهم ، ليس للواقع فحسب بل للشعر أيضا .

                                ( ذات يوم من القرن الماضي)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق