عن الشعر والأغنية والحب
رابح التيجاني
كثير من المثقفين يستخفون بالكتابات المتعلقة بالحب ويستهجنون الأغاني الرائجة التي نسمها بالعاطفية ويعتبرونها مائعة وتافهة وسخيفة وتجدهم خلف الجميلات يصفرون كالرعاة بين المواشي ، وأكيد أن الدفاع عن هذه الكتابات والأغاني يبدو رهانا خاسرا ،حقا هناك كتابات سخيفة ، أما الحب فهو قضية من أهم وأولى القضايا وطرحه عبر الإبداع ليس ابتذالا ، إن الحب في اعتقادي أعقد القضايا الإنسانية التي رغم كثرة ما قيل عنها تظل مغرية ومثيرة ، أليس الحب تميزا إنسانيا ؟ إنني واثق من أن الذين يكرهون هذا الحديث العاطفي والمناجاة وتلاوين التعبير عن الإنشداد للآخر هم يخلطون بين قضيتين : قضية الحب وقضية الجنس ، الجنس إلى حد ما ليس مشكلة ، مثلا عند الحيوان الأمر لايثير إشكالا ، وعند الإنسان كانت فوضى الجنس مثار صراع وكان التنظيم للجنس أيضا مثار صراع ووسيلة للضبط ولكنه دائما ظل مجالا سهلا يرتاده البشر بالطرق المشروعة أو غير المشروعة ، ولكن الحب شئ آخر ، إنه إلى حد ما قضية ميتافيزيقية ، كيف يستطيع الكائن الواحد أن يتخلص من أنانيته أن ينخرط في طريق التعاطف في مسار الألفة فرارا من الوحشة والعبث وبحثا عن المعنى وإكسابا للوجود نوعا من القيمة والتبرير؟ .
إن حديث الحب ما لم يكن أصلا قناعا للجنس فقط ، والجنس المبتذل خاصة ، هو حديث بليغ ويتضمن نزوعا إنسانيا خالدا لا يمكننا بجرة قلم أن نلغيه مهما بدا لنا تافها ، إنه حديث يضفي على الوجود وتجارب الحياة ظلالا هي ما يفرق بين حياة الناس وحياة الحيوان ، وليس الإحتياج للمرأة مجرد احتياج عابر،إنه أكبر من ذلك بكثير، ولعل الجنس وسيلة من الوسائل وطريق من طرق الحب ، ولكن الكثير في غمرة تجارب الجنس يغرقون في أنانيتهم ، إنهم لا يحبون إلا أنفسهم ، إرضاء رغباتهم ، أما الإنفتاح على قلوب مشدودة إلى نفس الهموم وضائعة في نفس الطريق وباحثة عن الأجوبة ذاتها والآفاق ذاتها والغيب ذاته فأمر يبدو مبتذلا ، إن التعبير عن الحب حتى في أقصى حالات الإبتذال مثقل بخلفيات عميقة ، إننا نعاني الوحدة حتى إذا كنا "دون خوان"، نتخلص من امرأة لنصطاد أخرى ، نعيش في دوامة الحاجة البيولوجية وتلبيتها، ولكننا في الحب نتخلص من وحدتنا ، نشعر أن الإنسان ليس واحدا ، ليس وحيدا ، إنه التمازج والسير خطوة وقعها واحد في طريق موحش ، من يسلكه وحيدا لن يكون بحال من الأحوال إنسانا ، إن الحب تضامن تجاه الغيب والميتافيزيقا والواقع ، وهو بذلك إن تحقق يبدو أغلى مكسب وأغلى قيمة في الحياة ، به لا نصبح مجرد كائنات تصرف الأيام ولكن تصنعها ، وتصنعها بإرادة مشتركة تفكر في الذات وفي الآخر وفي الحياة وفي المستقبل والإستمرار .
إن الكثير من الناس يعبرون عن الحب بسذاجة حقا ، وفي طليعتهم عديد ممن يكتبون شعر الأغاني الذي نشتكي جميعا من مضامينه السطحية المتجاوزة ، هم يريدون ، يشتكون الهجر ، ويعيدون ما تلقنوه من أصناف الشكوى ، بسطاء في تعبيرهم ، ولكنهم مع ذلك يصدرون عن عمق فلسفي قد لا يدركونه ، إن الحب غريزة كما الجنس ولكننا في سيرورة ابتذال القيم وتقزيمها وأمام معضلات الواقع نجد الحب كما لو كان حالة مرض أو جنون ، وقد اتهم العشاق الخالون بالجنون ، وهم كذلك حقا لأنهم في هذا العالم الأناني ، المريض بأنانيته ، المريض بجنونه ، استطاعوا أن ينصهروا في الحب ، في أفق يصل بهم إلى ذواتهم عبر غيرهم ، استطاعوا أن يمدوا جسرا أمام الكائن البشري ليبلغ جزءا من معنى وجوده ، إنني أتساءل رغم كل ما قيل عن الحب هل نحن قادرون على الحب ؟ إننا في أقصى الحالات نمارس كذبا مفتعلا ، نحاول أن نتخلص من عدميتنا من عبثية وجودنا ، نحاول أن نرضي رغباتنا ، نمتلك امرأة وننجب أطفالا ، لا ندرك معنى إنجابهم كالحيوان تماما ، نرعاهم أو نتركهم لرعاية السماء ، إننا عندما نحب لا نتخلص من العبثية والعدمية ، لا نرضي رغباتنا فقط ،إننا نؤسس الحياة ،إننا نتحدى ألغازها ، إننا نعطيها الإستمرار ، إننا نتجاوز ضعفنا وضآلتنا ، نخلق القوة ونبعث القيم والمعنى ، لذلك فإذا نادى عاشق بابتذال أو بعمق فإنه لا ينبغي أن نتلقى نداءه بإدراكنا المحدود الذي تعلمناه عن الكبت والتفريغ ، إن الحب قضية أخطر من الجنس ، ولا أعتقد أن النجاح في الحب أمر سهل ، ولذلك يحق للناس أن يظلوا منذ كانوا يبكون حرمانهم ، ويحق لمطربينا وشعرائنا أن لا يخجلوا من أغانيهم السمجة الضحلة في نظر البعض ، وليبكوا ما شاء لهم البكاء بل وليندبوا ويرددوا المناحات في محراب الحب ، أليس ثمة من أتخمه ركام غرامياته وتنامي رصيد علاقاته ولا يفتأ يجأر بالشكوى والحنين ؟ هل نحن لا نعرف ما نريد ؟ أم ندرك من الحب مرحلة وتنحجب عنا مراحل؟ وماذا نقول عن الحب بعد أن تنتهي قوة الجنس ثم ماذا نقول عن الحب الذي لا يمكن أن يكون الجنس من أركانه ؟.
إننا نفسر الإقتصاد بالإجتماع ، والإجتماع بالإقتصاد ، والجنس بالحب والحب بالجنس ، غير أني أرى بأن الحب قضية منفصلة حتى إذا ما ارتبطت بقضايا أخرى ، وهو في اعتقادي كما أسلفت أشبه بالقضايا الميتافيزيقية ، لماذا نحب ؟ ولماذا نحب هذه بالذات ؟ وكيف نحب ؟ وماذا نريد من الحب ؟ تلك أسئلة لا نملك جوابا نهائيا عنها ، نحب لأننا نحب ، ونحب هذه لأننا أحببناها ، وكيف أحببناها لاندري كيف ، ونريد من حبها ما نريده وما لا نعرفه أيضا .
إن الحب ليس بالبساطة التي نتناوله بها ، إنه أكبر منا ، وإنه سر من أسرار تميزنا ككائنات إنسانية ، ولذلك فإن الإبداع في مجال الحب كيفما كان سطحيا يثير لدي من الأسئلة الكثير حتى ولو كان إبداعا ساذجا ورديئا لأنه تعبير عن هم وشاغل خالد ومشروع ، ولست أعتقد على الإطلاق بأن الحب قضية تنتهي ، إننا نحب دائما وعندما ننتهي من الحب تنتهي إنسانيتنا ولن نكون آنذاك إلا كالحيوان الذي لن يضطر بحال من الأحوال ميتافيزيقيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا أن يندب مأساته في الوجود باحثا عن الحب .
إن الجنس بكل إيجاز احتياج بيولوجي بالدرجة الأولى ، في حين يظل الحب احتياجا عاطفيا ، لكن أنجح العلاقات تلك التي يزدوج فيها الجنس بالحب محققا احتياجا آخر ، احتياجا اجتماعيا توافق المجتمع على تحديده في مؤسسة الزواج . وعلى كل ، فإننا عندما نرفض عواطف بدعوى كونها رخيصة أو تعبير عن كبت فإننا في الواقع لانولي العواطف ختى في إطار الجنس ما تتميز به من إنسانية محاولين بذلك الإدعاء أننا حققنا إشباعا ولانعاني حرمانا ، في حين أن الجنس البعيد عن العواطف هو ممارسة لا نختلف فيها عن الحيوان ولا تحقق إلا إشباعا بيولوجيا ، أما الحب فيظل تميزا إنسانيا واحتياجا خالدا أكيدا اقترن بالوصل أو بالهجر . ثم ألا يجد الحب بكل تفاصيله متسعا له في قلب الخنادق وساحات الحروب ربما أكثر من فضاءات الحدائق وبين أسراب الحمام وأجواء السلام ؟ إن الحب خلاصنا حقا من اللاجدوى والعذاب .
إننا عندما نحب يصبح لوجودنا معنى آخر ، ليس بالمفهوم الوجودي الذي يرانا كائنات مقذوف بها للعالم أو الكائنات الملعونة في الأساطير والمخلوقات التي جاءت للصراع والإبتلاء .
عندما نحب تصبح كل القيم الخيرة أصل الوجود، نحب الحياة ولا نخشى غير الفراق ونتجاوز حتى الموت إذ نعطي للحياة الإستمرار والإستمرارإلى الأبد …
(ذات يوم من القرن العشرين)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق