كم كنت آمل أن يتسع ثرى مقبرة باب امعلقة لاحتضاني وتفتيت جسدي الفاني بعد عمر طويل حتى تتحد ذاتي بذراتها وبحبيبات الرمال المستلقيةعلى جنباتها والسابحة في فضائها ، كانت الأمنية مستساغة وأنا أراها بتميزها وتفردها بمجاورة البحر ومداه وبرفقة التاريخ وأسواره وقصباته وحكاياه ، كنت أتمنى موقنا بأن أمنيتي ليست حلما بعيدا مستبعدا أو غاية مستحيلة غير أنهم أقفلوا أبوابها بعد أن امتلأت عن آخرها بمن تعجلوا وأسرعوا لحجز مراقدهم في الوقت المناسـبأولئك الذين لم تلههم الدنيا فتغافلوا وأغفلوا إيجاد مكان أبدي لهم يستريحون فيه من عناء السفر وتعب الرحيل في متاهات الدنيا .
لم يبق شبر وربع بل ليس ثمة شبر واحد أو أقل من شبر وسط القبور أوعلى امتداد محيطها بزاوية مطلة على البر وحده أو على البر والبحر في آن ، لم يبق مكان ، حتى الممرات نالت نصيبها من الضيوف الوافدين في آخر المطاف ، ضاقت المقبرة ولم يعد باٌلإمكان أن تستقبل المزيد ، وأمسى لزاما على الموتى الجدداللجوء لمقبرة سيدي بلعباس البعيدة عن البحر والقصبة وبانوراما الرباط وسلا ، المقبرة القديمة الجديدة بين الشوارع في غمرة دخان وزعيق السيارات والحافلات وجعجعة الحركة المزعجة التي لاتنتهي طول اليوم، ماذا عساي أفعل ،؟ لم يجل بخاطري يوما وأنا أعبر المقبرة في طريق ذهابي إلى البحر أو إيابي منه أوعند زيارات الترحم على روح الوالد والوالدة أن السكن بجوارهما سيكون أمرا صعب المنال ، كان علي أن ألتحق باكرا قبل أن تنغلق الأبواب ، دائما كان تسكعي في الحياة وتيهي وتأخري سببا في تفويت الفرص تلو الفرص وضياعها مني ولم يكن يهمني أن تنفلت الفرص تباعا لأنها تتجدد كل حين فما إن تضيع واحدة حتى تبشرك الدنيا بأبهج منها، ولكن ضياع مثواي الأخير خسارة فادحة ،ولايمكن بحال أن أستوطن أرضا غير التي أهواهاوتشدني إليها أوثق الأواصر أرضا أعشقها لجمالها الفاتن وأتخيلها حتى وأنا في أغوارها أهيم في فضاءات تصلني بمويجات البحر وسديم سمائه اللماعة وتجد لي مجلسا بالأوداية منفتحا على دور وبيوتات المدينةومطلا على الأسوار والأضرحة والأزقة والدروب .
لم يعد الآن هذا ممكنا ،ليتني كنت مت منذ أمد حتى لا أجدني اليوم مشردا بلا مأوى ، أو لاجئا إلى حيث لا أعلم ، فات الأوان وفاتني أن أكون بعيد النظر حاسبا للتوقعات ومدركا للاحتمالات قبل أن أتفاجأ بهذا الواقع الداهم المباغث كالموت ، لاتاتيكم إلا بغتة ، كم غازلتها وراودتها وأبت ، تمنعت ، وهي دائما عزيزة المنال متمنعة حتى وهي توهمك بأنها لك ومعك، كم خامرتني مشاعرها وإيحاءاتها وموسيقاها الهادئة الحالمة الغافية حتى يسرقني النوم من اليقظة ويتهيأ لي أني نلتها وتملكتها وأصبحت لي وأصبحت لها ، لكن اصطباحي بالفراغ يظل صادما أرتطم بقساوته إلى حين، أواه ياليتني وياليتني ألف مرة اختصرت المسافات واختزلت الأزمنة ووجدت لي مسكن جثمان أو موطئ قدم في غابة القبور النابتة شاهداتها أوشواهدها كالشجر الدي مل التحليق والتعالي في الفضاء واستلذ الغوص في أعماق الأرض التماسا للدفء والتلاشي والتفتت ترابا تذروه الرياح.
لم يعد الآن هذا ممكنا ،ليتني كنت مت منذ أمد حتى لا أجدني اليوم مشردا بلا مأوى ، أو لاجئا إلى حيث لا أعلم ، فات الأوان وفاتني أن أكون بعيد النظر حاسبا للتوقعات ومدركا للاحتمالات قبل أن أتفاجأ بهذا الواقع الداهم المباغث كالموت ، لاتاتيكم إلا بغتة ، كم غازلتها وراودتها وأبت ، تمنعت ، وهي دائما عزيزة المنال متمنعة حتى وهي توهمك بأنها لك ومعك، كم خامرتني مشاعرها وإيحاءاتها وموسيقاها الهادئة الحالمة الغافية حتى يسرقني النوم من اليقظة ويتهيأ لي أني نلتها وتملكتها وأصبحت لي وأصبحت لها ، لكن اصطباحي بالفراغ يظل صادما أرتطم بقساوته إلى حين، أواه ياليتني وياليتني ألف مرة اختصرت المسافات واختزلت الأزمنة ووجدت لي مسكن جثمان أو موطئ قدم في غابة القبور النابتة شاهداتها أوشواهدها كالشجر الدي مل التحليق والتعالي في الفضاء واستلذ الغوص في أعماق الأرض التماسا للدفء والتلاشي والتفتت ترابا تذروه الرياح.
لا أدري كيف ترتسم صورة الغابة في ذهني كلما رأيت المقبرة ، كيف تنبري شاهدات القبور شجرا بأسماء وأسماء وأرقام تواريخ ميلاد ووفاة وأدعية بالرحمة والمغفرة وسكانها ممددون ينظرون للشمس أمامهم مستقبلين شروقها ويصيخون لهدير البحر الآتي من خلفهم شجي المقام صوفي الإيقاع مشيعين غروبها، ولست أدري وأنا عابر للطرقات السيارة وغير السيارة كيف تتراءى لي التجزئات السكنية بشاهداتها الدالة على دخول الماء والكهرباء والمحددة لمساحاتها أشبه ما تكون بالمقبرة بل مقبرة حقيقية في انتظار أحيائها.
ماحديثي الآن وما جدواه ولماذا استطرادي وأنا ألتاع بمعاناة فقداني لأمل اختيار آخر مستقر لي في هذه الأرض بعد ان امتلأت مقبرة باب امعلقة وحتى مقابر أخرى أدمنت زيارتها كل حين مرافقا غاليا أوغالية رفقة الوداع قد امتلأت أو هي على وشك الإمتلاء ، كانت مقبرة سيدي عياد بمكناسة الزيتون ومقابر ومقابر- وما أكثرها لدرجة تعتقد معها بأن الحياة انتهت أو هي على وشك الإنتهاء - ماثلة نصب عيني كلما رأيتني ميتا متصورا لحيزي هنا أو هناك جنب شجرة أو قرب أقرباء ولكن نشوة مقاربة البحر وشهية التماهي به وشهوة معانقته أنستني كل تخيلاتي وجعلتني أجزم بأنني لن أعثر على امتداد الأرض وطولها وعرضها مأوى وملاذا وملجأ ومستقرا أبهى من مقبرة باب امعلقة لاسيما وأني بها وبترابها لن أكون غريبا على الإطلاق مادام أبي وأمي يشرئبان إلى الأبد لرؤيتي والسؤال عني وعن حالي ومآلي ويفسحان لي بقربهما موضعا ولو كان في حجم ذرة رمل كلما أحسست بضيق أو اختناق ، فثمة أكاد من الآن أن أتبين رفرفة نوارس الروح عبر الفضاء المترامي ولمسات النسمات النديات تلملم شتات التراب المشتاق بعضه لبعض ، ولن أضمن هذا الامتياز أو النعمة أبدا لو احتضنتني أرض غير هذه وشربتني أغوارها أو جذبني جزر بحر غير هذا البحرإلى أبعد الخطوط حيث لا مد ولا رجوع .
* الصورة بالأعلى لللأخ محمد بلغازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق